ثمّة معلومات سعودية تتحدث عن طيّ مرحلة الرئيس سعد الحريري السياسية لبنانياً «في شكل نهائي»، وليس مجرد تعليق عمله السياسي والانتخابي. والمعلومات تحمل في طيّاتها أن المرحلة الحالية هي انتظار ما تفرزه الانتخابات ليبنى على الشيء مقتضاه، أي أن لا برنامج عمل مفصلاً لدعم أي شخصيات سنية تتحرك في المرحلة التي تسبق الانتخابات.من هنا، يبدو موعد 14 شباط مفصلياً لوضع خاتمة واضحة، وتحديد مدى صحة إنهاء مرحلة الحريري سياسياً، وما سيكون عليه تيار المستقبل (والحريرية السياسية بالمعنى الواسع) ومن ينتظرون إشارة حقيقية عن مرحلة ما بعد الحريري، وهل ستكون ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري النقطة الفاصلة لطيّ فعلي لمرحلة 2005 ــــ 2022. والأهم، الى أي مدى سيلتزم رئيس تيار المستقبل الابتعاد عن العمل السياسي، بما يشمل كل الإيحاءات الانتخابية والسياسية لناخبيه، من أجل رسم معالم المرحلة المقبلة.
أسبوع مرّ على كلمة الحريري، ولم يظهر بوضوح كيفية إخراج خطابه المقتضب عن ابتعاده عن الساحة عملياً. فما قاله الرئيس فؤاد السنيورة والمفتي عبد اللطيف دريان عن عدم المقاطعة السنية، وما يتردد من شخصيات مستقبلية حول الوضع السياسي والسجالات الدائرة، يظهر أن الضبابية لا تزال مسيطرة حتى على أبناء البيت الواحد، الأمر الذي جعل المعارك الجانبية تتفوق على المعطى الأساسي الذي استدعى خروج الحريري من المعادلة.
وقد لا تكون هذه «معارك جانبية» في نظر محيط الحريري السياسي ومتفرعاته، لأنها تستكمل ما حصل منذ التسوية الرئاسية. من هنا، فإن أهم ما يفترض رصده، تبعاً لذلك، علاقة تيار المستقبل بكل من القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي. إذ إن أول معالم التحالفات الانتخابية بدأ بين رئيس الاشتراكي وليد جنبلاط ورئيس القوات سمير جعجع. والطرفان يخضعان لتأثيرات سياسية من جانب تيار المستقبل، كل منهما في اتجاه معاكس.
بخلاف ما ذهب إليه البعض من تأويلات حول موقف جنبلاط من الانتخابات بعد انكفاء الحريري، بادر جنبلاط الى تحديد أولويتين: ذهابه الحتمي الى الانتخابات وطيّ صفحة رئيس الوزراء السابق. لا يمكن لزعيم المختارة أن يغامر بمصير الدروز في مرحلة حساسة من خلال قيامه بتجارب سياسية كالانكفاء أو المقاطعة. في زمن التوازنات الدقيقة، يصبح خيار من هذا النوع انتحارياً، مهما كان اعتراضه على قانون الانتخاب ورغبته في تبديله، ومهما كان موقفه الشخصي من الحريري أو من مرحلة عام 2005 التي كان أحد أركانها الأساسيين، وحتى التسوية الرئاسية.
ردّة فعل المستقبل لم تستهدف جنبلاط رغم أنه بدا الأسرع في القفز فوق مرحلة الحريري

يعرف جنبلاط كيف يطوي الصفحة وينتقل الى أخرى بسهولة، من باب الواقعية السياسية التي يتعامل بها. وقد سبق أن شارك في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عام 2011 التي جاءت في أعقاب إطاحة حكومة الحريري، كما لم يكن بعيداً عن الاختيارات الدرزية في حكومة الرئيس حسان دياب وحكومة ميقاتي الحالية. والواقعية السياسية جعلت من الاشتراكي يحاول، قبل إعلان الحريري قراره من بيروت، ترتيب الوضع الانتخابي في الجبل على خطين: المستقبل في إقليم الخروب والقوات اللبنانية في الشوف وعاليه وبعبدا. وهو في الخطين وضع أسساً ثابتة، حتى الآن، على أمل تبلورها تباعاً.
لكن رغم أن جنبلاط بدا الأسرع في القفز فوق مرحلة الحريري، إلا أن ردة فعل قيادات في المستقبل، ومنها من لم يكن مطمئناً الى علاقة الحريري بمعظم شخصيات وقوى 14 آذار، لم تستهدف جنبلاط لا من قريب أو من بعيد. في وقت كان فيه الاشتراكي يستكمل لقاءاته الانتخابية بفتح قنوات الاتصال مع معراب، على افتراض أن الانتخابات قائمة.
من المفارقات أن يستكمل المستقبل معاركه، بالمباشر أو غير المباشر، وكأن خطوة الحريري لم تحصل. وإذا كانت مشكلته المزمنة مع القوات لم تجد حلاً لها، منذ ما قبل التسوية الرئاسية وما بعدها، إلا أن خطورتها اليوم أنها يمكن أن تفتح مجالاً لتسعير طائفي، انطفأ في مرحلة عام 2005 وما بعدها. وتأجيج الخطاب السياسي شحذاً للأصوات الانتخابية من السهل أن يحوّله إلى خطاب طائفي، ويجعل من تقاطعه مع خطاب التيار الوطني الحر وحزب الله أمراً واقعاً. وهذا يزيد من عناصر التوتر في البيئة اللبنانية الخصبة، وهناك عقلاء في المستقبل يعرفون أهمية ما جرى عام 2005، وخطورة ما قد يجري عام 2022. فإذا كان الحريري لا يزال على خصومته لجعجع لألف سبب، فلأنه دفع ثمن التسوية الرئاسية من دون جعجع الذي خرج منها حافظاً مكانه في الداخل والخارج، في حين أن جعجع بمعارضته لاتفاق الحريري على ترشيح رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، جاء به الى الرابية الى تسوية أحرقت جسوره مع الرياض، وأخرجته من الحياة السياسية بعد خمس سنوات. لكن ارتداد الحريري على القوات، وتحميلها وحدها مسؤولية ما جرى معه، في مرحلة تنصبّ عليه العيون أكثر من أي وقت مضى، لن يكون من دون تداعيات.