عندما أطلق مصرف لبنان عملية «تعقيم» السيولة، بواسطة التعميم 161، كانت الغاية واضحة جداً: امتصاص الليرات من السوق وتجفيفه لكبح انهيار سعر الليرة وخفض سعر الدولار. يتردّد أن السعر المستهدف هو 20 ألف ليرة، وهو ينسجم مع السعر الذي اعتُمد في مشروع موازنة 2022 وفي خطّة التعافي لاحتساب الودائع التي ستردّ بكامل قيمتها لأصحابها. وهذه الخطّة انطلقت في توقيت دقيق، قبل نحو ثلاثة أسابيع من انطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. فتوحيد سعر الصرف وتحويل سعر «صيرفة» إلى السعر المرجعي للدولة اللبنانية، سواء في مشروع الموازنة أو في خطّة التعافي، أمر ضروري للإيحاء بأن ما يرد في الخطّة قابل للتحقيق والتنفيذ. فالخطّة التي تقترح تذويب نحو 60 مليار دولار من الودائع عبر تحويلها إلى الليرة بقيمة إجمالية تبلغ 695 تريليون ليرة، تعبّر عن المسار الذي أطلقه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة منذ اليوم الأول، والقاضي بتضخيم الأسعار وضخّ السيولة. ثم، كما نرى اليوم، تعقيم هذه السيولة مع خفض سعر الدولار. هذه ليست معجزة أو سحراً، بل سلوك يمارسه الحاكم منذ اليوم الأول لإدارة الأزمة. ولا يهمّه أن ينتج من هذه اللعبة «هيركات» مقنّع على الودائع يبلغ 70% بالحدّ الأدنى، وخسارة على الاقتصاد تظهر من خلال انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 33 مليار دولار، وتضخّم أصاب المستهلكين بنسبة 700% حتى نهاية 2021. هذا عدا عن خسائر الهجرة وتضرّر القطاعات وإفلاس الضمان وصناديق النقابات المهنية (مهندسون، أطباء، أساتذة...) التي كانت تقدّم امتيازات استشفائية وطبابة للمنتسبين إليها. كل ذلك لم يكن يهمّ سلامة طالما أنه قادر على التلاعب بسعر الصرف، وتذويب الخسائر المتراكمة في ميزانيته، وإظهار قدرته على ذلك لصندوق النقد الدولي الذي حذّره سابقاً من ضخّ الليرات مقابل تذويب الخسائر.في الواقع، تشير خطّة التعافي إلى أنه مع سعر صرف 20 ألف ليرة للدولار، ومع احتفاظ مصرف لبنان برأسمال سلبي بقيمة 25 مليار دولار، تذوب خسائر مصرف لبنان بالكامل. وهذا ليس تعقيماً لميزانيته، بل عقم في إدارة السياسة النقدية والمصرفية العاجزة عن أن ترى أبعد من عمليات التجميل المحاسبية على حساب المجتمع والاقتصاد. وهو ليس عقم مصرف لبنان وحده، بل عقم قوى السلطة التي تواصل الإنكار لأنها عاجزة عن التقدّم خطوة واحدة في الاتجاه الصحيح. وهذا ما تعكسه بوضوح النقاشات في مجلس الوزراء حيث تُقترح زيادة تعرفة الاتصالات، وزيادة تعرفة الكهرباء، وزيادة الرسوم الجمركية والدولار الجمركي، وسائر الضرائب، مقابل «فتات» سُمّي «مساعدة اجتماعية» تستعمله السلطة وسيلة لشراء ذمم الناخبين تحت ضغط التجويع. وهذا الفتات تسرّب سابقاً مع «البطاقة التمويلية» وقبلها مع «الدعم»... لا تهتم السلطة لواقع الاستشفاء وتدنّي مستوياته وهجرة الأطباء والممرضين وارتفاع الكلفة. وتتقصّد تجاهل احتكارات الأدوية التي تتحكّم بمرضى السرطان، بينما هي عاجزة عن تقديم بضعة ملايين من الدولارات لدعم أملهم بالحياة. لا قوى السلطة ولا سلامة يهتمّون بذلك، بل ينشغلون في تعقيم المصيبة التي خلقوها على حساب المجتمع والاقتصاد أيضاً.