إحدى وعشرون جولة عنف بين التبانة وجبل محسن، أودت بعشرات الضحايا وحوّلت باب التبانة، أو «باب الذهب»، إلى أبنية خردقها الرصاص ومحال أحرقتها القذائف. «المستقبل» الذي ساهم محازبوه في تلك المعارك وحمت قياداته «قادة المحاور»، كانت مساهمته في السلم طلاء جدران الأبنية في «شارع سوريا»، خط التماس بين المنطقتين، باللون الأزرق إشارة إلى تبعيته لـ«الإمارة الحريرية».قبل ذلك بسنوات، مطلع عام 2011، بعدما وافق الطرابلسي نجيب ميقاتي على ترؤس الحكومة إثر إسقاط حكومة سعد الحريري، هاجم أنصار الأخير الغاضبون المراكز الحزبية لخصوم «المستقبل» وعاثوا فيها فساداً.
منذ ما قبل ذلك، وطوال 17 عاماً، انقادت طرابلس للشحن المذهبي. كانت أحياء التبانة والمنكوبين وأبي سمراء تشتعل بالرصاص كلما أطلّ «الشيخ سعد» على شاشة. صمت ثقيل خيّم على تلك الأحياء مساء الاثنين الماضي، بعدما كان متوقعاً أن تشتعل غضباً. قبل ذلك، بذلت منسقية «المستقبل» جهوداً كبيرة، في اليومين اللذين سبقا إعلان الحريري «تعليق» العمل السياسي، لحشد المناصرين ونقلهم إلى الوقفات الداعمة في «بيت الوسط». رغم ذلك، كانت المشاركة هزيلة، وبعض المشاركين نالوا «إكراميات» مقابلها.
لطالما شكا الطرابلسيون من استخدام «المستقبل» وغيره لهم صندوقة بريد. مع ذلك، يعرب فقراؤها عن تعاطفهم مع نهاية الحريرية. لكن التعاطف لا يحجب «صوت العقل». إذ إن «استمرار سعد الحريري في العمل السياسي أو تعليقه له سيان». هكذا يعبّر كوادر ومفاتيح في الأحياء الشعبية عن تغيّر مزاج المدينة التي كانت منذ عام 2005 عصب المهرجانات والتظاهرات والمسيرات الداعمة للتيار الأزرق.
«البعد يولد الجفاء»، بهذا يختصر كثر سبب الفتور الذي كبُر على نحو تدريجي بين الفيحاء والحريري. «طيلة 17 عاماً لم يتواصل مع الطرابلسيين إلا في المواسم الانتخابية. حينها فقط يصبح القلب على الشمال. يأتي ليقيم في الفندق، وتزحف حشود الفقراء إليه. تُدفع الأموال للمفاتيح الانتخابية ولكوادر التيار وتنتهي الزيارة بانتهاء الانتخابات، ليغيب مجدداً مع وعوده».
مشاريع كثيرة وعد بها الحريري شباب طرابلس، منذ عام 2005، انتهت بإقفال مكاتب «المستقبل» وصرف الموظفين وإقفال أبواب المساعدات الصحية والاجتماعية. المشاريع بقيت حبراً على ورق. الأوتوستراد العربي الذي يقطع طرابلس باتجاه البداوي وصولاً إلى الحدود اللبنانية بقي حلماً. بعد مطالب ملحة، زار الحريري قبل خمس سنوات طرابلس لتدشين إنجاز مساحة لا تتجاوز خمسين متراً من الأوتوستراد، واعداً باستكماله قريباً... وهو ما لم يحصل.
«أبو خالد»، أحد المقيمين في الأحياء الشعبية، لا يذكر من إنجازات «المستقبل»في عاصمة لبنان الثانية سوى «تزويد مجموعات مسلحة إبان الاقتتال الأهلي بين التبانة وجبل محسن بالسلاح والذخائر وبالمال أيضاً، سواء بعلم الحريري أو من دون علمه. فيما كان المطلوب توفير فرص العمل. حتى المستوصفات التي افتتحها لم تكن بالمستوى المطلوب وتحوّلت دكاكين للمحازبين». كثر يحمّلون التيار مسؤولية مشهد «قطع الطرقات وقطع أرزاق المواطنين. كانت الطرقات تقفل بالإطارات المشتعلة بإشارة من قياديي المستقبل وتُفتح بغمزة عين منهم».
الفتور ينسحب على المستقبليين أنفسهم. في «أيام العزّ»، انتمى كثر إلى «أفواج طرابلس»، الذراع العسكرية للتيار الأزرق حينها. حين حُلّت الأفواج وتوقف التمويل، تشتت هؤلاء بين «جمعية العزم والسعادة» وبين اللواء أشرف ريفي. عند انطلاق حراك 17 تشرين، كانت طرابلس في طليعة المدن التي انتفضت على المنظومة الحاكمة ولم توفر أحداً من نوابها. خرجت الفيحاء، وإن بخفر، عن الحريرية قبل أن تتخلى الأخيرة عنها وعن سائر قواعدها.
منسق تيار «المستقبل» في طرابلس ناصر عدرة يخشى من «المستقبل بلا الحريري». يؤكد «أننا سنبقى إلى جانب الناس ونقدم لهم ما تيسر من مساعدات». يشدد على أنه «لا يمكن لأي حالة سياسية أن تغطي الفراغ الذي سيخلّفه الحريري في الحياة السياسية والساحة السنية». مع ذلك، فإن طرابلس «ستكون الأقل تضرراً لوجود أقطاب سياسية فاعلة فيها».
افتتحت القوات اللبنانية مكاتب في أحياء شعبية وخصصت «موازنة بلا سقف» لانتخابات الشمال


يقسم سياسي طرابلسي «بقايا المستقبل» إلى ثلاث فرق: «فريق سيلتزم بيته محافظاً على ولائه للحريرية السياسية. وفريق ممن استفادوا من التيار كمصدر رزق سيفتش عن مصدر رزق جديد قد يجده لدى الرئيس نجيب ميقاتي أو القوات اللبنانية. وفريق ثالث سيتوزع على مرجعيات سياسية طرابلسية بحثاً عن غطاء سياسي».
وراثة الميقاتية للحريرية «نتيجة طبيعية» يقر بها عدرة. فالملياردير نال في المدينة الفقيرة نسبة أصوات أعلى من تيار المستقبل في انتخابات 2018. وفي حال قرر ميقاتي الترشح «سيكون المستفيد الأول. وهو ما يسعدنا لأنه صديق، وحتى الساعة لا نرى أوفر حظاً منه».
في مقابل ميقاتي، لا يتحمس كثر لبهاء الحريري «الذي يريد خوض الانتخابات من برجه العاجي فيما سئم الطرابلسيون ممن يهبطون عليهم بالباراشوت». فيما تلوح مشاريع زعامات، منها ما يُعتبر صوته أكبر من حجمه. ناهيك عن حراك نافر للقوات اللبنانية في مدينة الشهيد رشيد كرامي. إذ افتتحت القوات أخيراً مكاتب عدة في أحياء شعبية متسلحة بـ«الفريش دولار»، وبـ«موازنة بلا سقف لخوض الانتخابات بالتحالف مع أشرف ريفي» وفق مصدر مطلع. فيما يؤكد عدرة أن رئيس حزب القوات سمير جعجع «لن يستفيد من أصوات الطرابلسيين في الانتخابات المقبلة نتيجة مواقفه من الحريري التي أدت إلى نقمة كبيرة عليه لم تظهر جدياً إلى العلن بعد».