لا يحتاج اللبنانيون إلى شرح لأسباب عزوف سعد الحريري. ما يريدونه معرفة انعكاسات القرار على حياتهم اليومية. سيخرج كثيرون، من الخصوم أو المنافسين، يقلّلون من شأن الخطوة، ويفترضون أنها لا ولن تؤثر في واقع البلاد. وسنجد من يطل علينا قائلاً: «كلها يومين والناس بتروق وبتكمّل حياتها»!صحيح أن بيروت طاحونة لا تشبع من العظام. وصحيح أن لبنان شهد أفولاً لنجوم أكبر من سعد الحريري. لكن الصحيح، أيضاً، أن الجسم اللبناني هشّ إلى درجة أن خطوة كهذه تسبّب له عطباً إضافياً، فكيف إذا تزامنت مع اشتداد الخناق على لبنان، حتى بدت، في جانب منها، وكأنها ليست عقاباً للرجل الذي فشل في تحقيق أهدافه، بل خطوة أولى في مرحلة جديدة من الضغوط على لبنان.
ينبغي السؤال عن سرّ تزامن قرار الحريري ووصول الموفد الكويتي حاملاً دفتر شروط تعجيزية، وعن عدم اكتراث قوى بارزة في لبنان، وعواصم كبيرة في المنطقة والعالم، لخطوة الحريري، والإيحاء بأن نتائجها محصورة في دائرة معينة. لكن، يجب السؤال، أيضاً، عن مستقبل قسم من اللبنانيين، قرروا، وهم أحرار في قرارهم، أنهم يريدون سعد الحريري ممثّلهم في السلطة السياسية. وعندما قرر التنحّي لم يرق لهم الأمر، ومن الصعب توقع مبايعتهم لبديل عنه في القريب العاجل.
الفراغ، هنا، لا يتعلق بمنصب يمكن شغله على عجالة. الفراغ، هنا، يعكس حالة عجز عن إنتاج فكرة وخطاب تجلب معها الناطق باسمها أو قائد حملتها. وكل ما نسمعه أو قد نسمعه، من أنصار الرجل أو منافسيه، لا يعدو كونه انفعالات لا تعمّر لأسابيع. حتى الذين يُظهرون حماسة لوراثة الرجل، من أهل بيته السياسي أو الطائفي، لا يمكنهم ادّعاء أنهم أصحاب فكرة قابلة للرواج اليوم. مشكلة هؤلاء أن الحريري برّر انسحابه بالعجز عن القيام بما هو أكثر من عدم الانجرار إلى حرب أهلية. برّر خطوته بالقول إن القواعد المعمول بها في السياسة اللبنانية لا تنتج أفضل مما هو سائد اليوم. وإنه قرر، من تلقاء نفسه أو استجابة لضغوط، أو تماهياً مع ظروف، الخروج من اللعبة. وهو يفعل ذلك منبّهاً الناس إلى أنه لا يوجد ما يسمح بالتفاؤل بإمكانية إحداث تغيير كبير في المشهد اللبناني.
عملياً، يمكن للراغبين في تجاهل الواقعة الكبيرة، تجاهل تداعياتها الكبيرة على الواقع العام في لبنان. في هذه اللحظة، لا يصحّ التدقيق في نتائج ما حصل على صعيد الفريق السياسي الخاص بالحريري. يمكن لمن يرغب الاستماع إلى حسرة وليد جنبلاط وامتعاض نبيه بري وقلق دار الفتوى وحيرة سمير جعجع، لكن كل ذلك لا ينفع إزاء واقع آخر، يمثّله قسم غير قليل من اللبنانيين، باتوا اليوم بلا مرجعية تقيهم شرّ الشرود بين حيتان السياسة. مواطنون تغلبهم العاطفة في كل ما يقررونه من خطوات. ولو كان الواقع الاجتماعي لمريدي الحريري في حالة حسنة لراقبنا هجرة حقيقية لقسم كبير من هؤلاء إلى ديار الله الواسعة. ثمة سلوك جديد سيُجبر كثيرون على أتباعه. موظفون في الدولة سيهيمون على وجوههم بحثاً عن مرجعية تسندهم في ما تبقّى من دولة منهارة، ورجال أعمال يبحثون أصلاً عن ملاذات بعيداً من مآسي الإدارة اللبنانية. أما الفقراء، وهم جيش الحريرية الأكبر، فسيعيشون أصعب أيامهم، وهم عرضة لأهواء منافقين يعدونهم بالأفضل. علماً أنهم أساساً يعيشون تعبئة داخلية تجعلهم يغضبون على الجميع دفعة واحدة.
يكفي تخيل أنصاره هائمين على وجوههم يبحثون عن جواب معاشهم السياسي اليومي


ما حصل يستدعي سؤال خصوم الحريري من القوى السياسية عن معنى عزوفه في حساباتهم. صحيح أن خطوة كهذه ليست آخر الدنيا. وصحيح أن مراجعة نقدية لم تحصل من قبله أو من قبل أنصاره لتحديد المسؤولية عما أوصله إلى هذا القرار. لكن الصحيح، أيضاً، والصحيح أكثر، أن الخصوم كما الحلفاء أمام حالة تستدعي تشخيصاً دقيقاً قبل إحالتها إلى الطبيب المختص. نحن أمام مشكلة تخصّ كل اللبنانيين. وهي مشكلة حقيقية حتى ولو اتهمنا الرجل ومن خلفه بالمسؤولية عنها. صار لبنان كله معنياً بإيجاد حل للمسألة الحريرية، بوصفها تمثل مزاجاً حقيقياً وقوياً عند ثلث اللبنانيين على الأقل.
بالأمس، لم يكن يوماً لعزوف الرجل. تكفي مراقبة العيون الشاخصة إلى الشاشات منتظرة ما يريد قوله، لنعرف أنه ليس هناك من هو قادر على النزول إلى الشارع ورفع شعار: أنا البديل!
اليوم، يجب أن نبحث عن جواب لسؤال أكثر حراجة: من الذي أخافه قرار الحريري ومن ابتهج به؟ هذا تمرين يتيح لنا تقدير مسارات السياسة في القابل من الأيام، لأن قرار الحريري بالعزوف لم ولن يكون منعزلاً عن سياق يقود لبنان إلى حالة من الفوضى وعدم التوازن، وهي حالة قد تسبق حلاً وطنياً لا مقدمات له... وقد تكون مقدمة لحرب من نوع جديد.