شهد القرن العشرون في الولايات المتحدة نمو المؤسسات الخاصة للحفاظ على الثروة المُعفاة من الضرائب. في هذا السياق، تأسّست مؤسسة «فورد»، عام 1936، بمنحة قدرها 25000 دولار من صانع السيارات الشهير هنري فورد لابنه إدسل فورد مقابل 88% من أسهم المؤسسة ما يضمن بقاء ثروة الشركة في أيدي العائلة. اختار هنري فورد، أواخر أربعينيات القرن الماضي، بول هوفمان، المدير التنفيذي في شركة Studebaker لصناعة السيارات، رئيساً للمؤسسة. كانت شركة هوفمان آنذاك قد دخلت التفتيش القضائي مع بداية الكساد الكبير والانهيار المالي أواخر خمسينيات القرن الماضي، وأغلقت آخر مصانعها عام 1966. ومع انحسار طفرة صناعة السيارات خلال فترة الحرب، وظهور المجمع الصناعي العسكري الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية، انتقل أباطرة السيارات إلى جني الأموال من الفائدة المرتفعة على الثروة التي راكموها والربط بين العمل الخيري الخاص والدولة لتمويل الجبهة «الناعمة» للحرب الباردة.ترأّس هوفمان «خطة مارشال»، قرض الـ13 مليار دولار لإعمار وإنعاش دول أوروبا الغربية بعد الحرب. جعلت «خطة مارشال» أوروبا الغربية مدينة للولايات المتحدة ومؤسساتها المالية الدولية الحديثة النشأة مثل «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي». كما دعمت تدابير تحرير الاقتصادات وأرست سيطرة الشركات الأميركية وهيمنة صادراتها على الصناعات الأوروبية. وبذلك ولد النموذج لنشاط «مؤسسة فورد» في الدول الأخرى، والذي يظهر نموذج اقتصاد المانحين الحالي. توسّعت المؤسسة دولياً بعد الحرب العالمية الثانية، وشكّلت وحدة تنسيق مع وكالة المخابرات المركزية (CIA)، وكانت حجة رئيس المؤسسة في حينها جون ماكلوي أن الوكالة كانت ستخترق المؤسسة في كل الأحوال.
نشر أمناء المؤسسة، عام 1950، تقريراً مع لجنة دراسة من الباحثين والأكاديميين ورؤساء مؤسسات الدفاع الوطني الكبرى، مثل روان غايثر، صديق إدسيل فورد ورئيس مجموعة RAND، وويليام ماكبيك الرئيس السابق لفرع البحوث التربوية في وزارة الدفاع الأميركية، وعضو مجلس البحث والتطوير في «المؤسسة العسكرية الوطنية» دونالد ماركيز، وآخرين. تضمّن التقرير الأهداف الرئيسية للمؤسسة، ومنها «تخفيف حدة التوترات التي تهدد السلام العالمي» و«تعزيز الأمم المتحدة والوكالات المرتبطة بها» و«تحسين الإجراءات التي تدير بها الولايات المتحدة الشؤون العالمية».

الشرق الأوسط
عام 1953، توسّعت أنشطة «مؤسسة فورد» لتشمل بيروت، فساهمت بمنحة قيمتها مليون دولار للجامعة الأميركية في بيروت للبحوث الزراعية. كما موّلت مراكز تدريب للمدارس الريفية في سوريا. وأحرزت المؤسسة تقدّماً في العالم العربي في أعقاب الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة في سوريا والذي نصّب مؤقتاً نظاماً موالياً لها عام 1949، واستفادت الولايات المتحدة من «جبهة الأعمال الخيرية» وسعت من خلالها إلى ترسيخ حلف بغداد المناهض للسوفيات.
شملت محاولات انتشار «فورد» في الشرق الأوسط مبادرات فاشلة للتنمية الريفية في إيران منذ عام 1953 وطوال عقد الستينيات، إثر إطاحة وكالة المخابرات المركزية برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في انقلاب، بعد قراره بتأميم النفط الإيراني. وحيثما كانت «مؤسسة فورد» حاضرة، كانت الانقلابات. ففي السنوات التي سبقت الإطاحة برئيس تشيلي اليساري سالفادور ألليندي عام 1973، كانت تشيلي الدولة الأكثر تمويلاً من «فورد». وكلّف الديكتاتور أغوستو بينوشيه المدعوم من الولايات المتحدة المجموعة المعروفة بـ«صبية شيكاغو»، وهم اقتصاديون تشيليون درسوا في جامعة شيكاغو بموجب منح من مؤسسات روكفلر وفورد، لتولي مهمة لبرلة الاقتصاد الجديد.
بعد الحرب العالمية الثانية شكّلت المؤسسة وحدة تنسيق مع وكالة الاستخبارات المركزية


لا يزال الارتباط الوثيق بين «مؤسسة فورد» والمؤسسات المالية الدولية ووكالة الاستخبارات المركزية، المعلن عنه في تقرير عام 1950، قائماً حتى اليوم. تخيّلت قمة «ريزاين»، على هامش «منتدى الاقتصاد العالمي» لعام 2010، عالم ما بعد الحكومات على أنه مكوّن من التكنوقراط والمجتمع المدني لاستعادة الثقة بالنظام المالي العالمي من دون المضايقات التي لا يمكن التنبؤ بها من «المؤسسات التقليدية»، أي الدول والحكومات والأنظمة. ويتطابق ذلك مع كتابات رئيس منتدى الاقتصاد العالمي كلاوس شواب الذي يروّج فيها لما يسميه «الثورة الصناعية الرابعة»، حيث قد تفشل الحكومات وتفسح المجال لترابط معولم مختلف. ويحضر ذلك في منتدى الاقتصاد العالمي في كل بند من بنود جدول الأعمال، إذ يشارك ممثلو «مؤسسة فورد»، وهي أيضاً المؤسسة الأميركية الرئيسة التي تحضر في مؤتمرات بيلدربيرغ المغلقة في هولندا، والتي ينظمها شواب دورياً مع مجموعة حصرية من ممثلي الشركات الغربية والمؤسسات وأجهزة الدفاع بهدف «تعزيز النزعة الأطلسية» ضد التيار الأوراسي المتصاعد.
كان «الربيع العربي» ساحة اختبار لبدء تطبيق هذا المفهوم من خلال الحرب الناعمة. عدم القدرة على الاتكال على حلفاء الغرب التقليديين في لبنان ووقف تدفق الودائع الأجنبية بعد عام 2011، دفع بـ«مؤسسة فورد» إلى تعزيز الاستثمار في المؤسسات والمنظمات الجديدة التي من شأنها تسريع أنشطتها التقليدية في لبنان. تقليدياً، كانت «فورد» تشكّل النفوذ المدني من خلال التمويل التعليمي والمؤسسي، أما اليوم فتحولت إلى دعم مؤسسات تسعى إلى تقويض الدولة اللبنانية الضعيفة نسبياً واستبدالها.