في السنوات الأخيرة، تحوّلت كبرى المِنح المقدّمة من أسخى المؤسّسات، «مؤسّسة المجتمع المنفتح» (OSF) و«مؤسسة فورد»، إلى تمويل الفنون والثقافة في لبنان والعالم العربي. بحسب وثيقة استراتيجية المكتب الإقليمي العربي (ARO) التابع لـ «مؤسّسة المجتمع المنفتح» عام 2014، تُعدّ هاتان المؤسّستان من كبريات الجهات المانحة للفنون والثقافة المستقلّة. وقد حدّدت «مؤسّسة المجتمع المنفتح» المنظّمات الثقافية كمجال للتركيز عليه من أجل تعزيز «القيادة والحوكمة والاستدامة»، تحت شعار الفنون والثقافة.في العقدين المنصرمَين، كان النصيب الأكبر من التمويل من حصّة مؤسّستين هما: «المورد الثقافي» و«الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق) الذي شارك «المورد الثقافي» في تأسيسه عام 2006. وقد ساهمت «المجتمع المنفتح»، بشكل مباشر، في تأسيس «آفاق» ونموّها، وهذه الأخيرة ركّزت بدورها على توسيع نطاق التمويل العربي المحلّي ونموّه. من هذا المنطلق، تلقّت «المورد الثقافي» 1.7 مليون دولار، بين عامَي 2017 و2019. وفي الدورة الضريبية لعام 2018، تلقّت «آفاق» 2.36 مليون دولار من «المجتمع المنفتح». أمّا «مؤسّسة فورد»، فقد كانت جمعية «اتّجاهات» المستفيد الأكبر منها، عام 2021، إذ مُنحت ما يفوق 2.5 مليون دولار، فيما حصلت «آفاق» على 1.5 مليون دولار.
يأتي هذا التمويل، في ظلّ الاعتراف بالثقافة على أنّها تيار «دمقرطة» حيث فشلت الحرب، إذ تؤكّد وثيقة المكتب الإقليمي العربي أنّ من أهدافه تعزيز «بيئة إعلامية حرّة وتعدّدية»، في إطار مهمّة إحلال الديمقراطية «حيث الصحافة غير حرّة». ويرصد تقرير «اتجاهات» لعام 2016، «انتهاكات حقوق الفنّانين والمثقّفين»، كما يوثّق تنظيم الجهات الثقافية الفاعلة في المجتمع المدني اللبناني.
كذلك، تندرج السياسة الثقافية ضمن التصنيف التنموي لـ«اقتصاد المعرفة» الذي يروّج البنك الدولي له عبر المنظمات غير الحكومية، وهو ما سلّط «المورد الثقافي» الضوء عليه، في إطار رؤاه بشأن السياسات الثقافية. وتملك «آفاق» حالياً قاعدة بيانات واسعة تضمّ 10 آلاف فنّان، وتنشط في تدريب المستفيدين من المِنح.
انطلق «المورد الثقافي» كمنظّمة ثقافية عربية غير ربحية مسجّلة في بلجيكا، تغطّي أعمالها كلّ أنحاء العالم العربي، ومركزها الإداري في مصر. قبل عام 2009، ومع إطلاق مرحلة السياسة الثقافية للمؤسّسة، كان التمويل يذهب إلى مكتبها في بلجيكا، والذي تلقّى 250 ألف دولار بين عامَي 2008 و2009.
تعترف المؤسّسة الإقليمية، في بحثِها بعنوان «نظرة حول السياسات الثقافية» بعدم فصل السياسة عن الثقافة، وتوثّق الرابط بين الأحزاب السياسية والمنظّمات الثقافية القرينة لها. مع ذلك، كان الهدف إنشاء مؤسّسة ثقافية منفصلة عن الأحزاب القائمة، من خلال البرامج المرتبطة بمؤسّسة «المورد الاجتماعي»، مثل برنامج MedCulture المموّل من الاتحاد الأوروبي بين عامَي 2014 و2018، والذي يشجّع «دور القطاع المستقل والخاص في صنع المشهد الثقافي».
يتجاوز «المورد الثقافي» الحدود الفاصلة بين السياسة والثقافة، ويضع إمكانات «الفضاء الثقافي» لإعادة هيكلة السياسات والمؤسّسات في لبنان، ومعالجة مشاكل «الرقابة» التي يقوم بها الأمن العام اللبناني، والناتجة غالباً عن اعتبارات «طائفية» أو «سياسية» أو «أخلاقية». وفي البحث السالف الذكر، يستعرض «المورد الثقافي» تفاصيل مبادراته لتغيير الإطار القانوني لوزارة الثقافة والقطاع الثقافي.
في العقدين المنصرمين ذهبت الحصة الكُبرى من تمويل سوروس إلى مؤسّستَي «المورد الثقافي» و«آفاق»


إلّا أنّ جهود دمج أُطر السياسة الثقافية مع الهيئات الإدارية الرسمية اللبنانية لم تُكلّل بالنجاح. ووفق ما قال ممثّل مؤسّسة «المورد الثقافي» لـ«الأخبار»: «لم نتمكّن بعد من تعزيز التعاون في تطوير السياسات الثقافية بين وزارة الثقافة والمؤسّسات الثقافية، أو إحراز تقدّم في القوانين التي تحكم القطاع».
مع ذلك، لعب «المورد» دوراً في تسهيل أنشطة ثقافية إقليمية بالتنسيق مع السفارات والجهات المانحة الدولية. وفي تشرين الثاني 2012، أطلقت المنظمة برنامجاً تجريبياً انبثقت عنه مؤسّسة «العمل للأمل» غير الحكومية، التي أرسلت فريقاً من 17 فنّاناً إلى بلدة كلس الحدودية، جنوب شرق تركيا، ومخيّمات أخرى قرب الحدود السورية.
في المقابل، أُسّست «آفاق»، التي انطلقت في لبنان، عام 2011، لسدّ ثغرات نقص التمويل والمنح في العالم العربي، إذ تتجلّى مهمّة الجهة المانحة، بحسب بيانها، في المساهمة في «بناء مجتمعات منفتحة وحيوية»، وهذه هي حرفياً مهمّة «مؤسّسة المجتمع المنفتح». عام 2017، خلصت ورقة سياسية صادرة عن King›s College في لندن والأمم المتحدة في جنيف، بعنوان «فنّ القوة الناعمة: دراسة الدبلوماسية الثقافية في مكتب الأمم المتحدة في جنيف»، إلى أنّ الثقافة هي «حصان طروادة» الأنسب للرسائل السياسية، كما أنّها حاجة ضرورية للدبلوماسيين الغربيين، لـ«تمويه» الرسائل السياسية عبر «استخدام» الفنون لأغراض سياسية.
وزعمت الوثيقة، أنّ بعض الثقافات «الاستفزازية» تميل نحو «العنف والتطرّف»، ناسفة بذلك المهمّة الحضارية المتمثلة في تعزيز وتمويل الثقافة والمحتوى، الذي يتماشى مع «القيم الليبرالية للأمم المتحدة».
في أيار 2020، وعلى ضوء الانهيار الاقتصادي اللبناني الذي فاقمت جائحة «كوفيد -19» من حدّته، أطلقت مؤسّستا «المورد الثقافي» و«آفاق» «صندوق التضامن مع لبنان» لرصد أموال طارئة للفنّانين الذين تدعمهم. وبعد انفجار مرفأ بيروت، في الرابع من آب 2020، جرى إطلاق جولة ثانية للصندوق. كانت المنظّمات المشاركة مؤهّلة للتقدّم بطلب للحصول على 70 ألف دولار. وفضلاً عن التمويل من «مؤسّسة المجتمع المنفتح»، تلقّى «صندوق التضامن مع لبنان»، دعماً من «صندوق الحماية الثقافية» التابع للمجلس الثقافي البريطاني، والمؤسّسة الثقافية الأوروبية، ومكتب التعاون السويسري، وغيرها.
تُعتبر ليلى حوراني، رائدة في تطوير البرامج الثقافية واستراتيجية الشرق الأوسط. إلى جانب كونها مديرة البرامج في «مؤسّسة فورد» التي تعمل على تقديم المنح الثقافية للمنطقة العربية، وهي كانت أيضاً من أعضاء المجلس الفني لـ«المورد الثقافي» بين عامَي 2005 و2011. كما أنّها عضو في مجلس إدارة كل من «اتجاهات» و«آفاق». منذ تولّيها منصبها، رُصدت أكبر منح «مؤسّسة فورد» لمؤسّسات ثقافية وفنّية في منطقة «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا»، من ضمنها مليونان ونصف مليون دولار لمصلحة «اتجاهات» عام 2021 (وهي قفزة كبيرة من عام 2020 حين بلغت منحة «مؤسّسة فورد» 650 ألف دولار).
تماهي أهداف سوروس و«فورد»، بالترويج للفن المعاصر والتعبئة السياسية، يتماشى مع دور الولايات المتحدة كـ«قوة عظمى ناعمة»، وفق تقرير King›s College ومكتب الأمم المتحدة في جنيف. وطالما كانت مواضيع الفن المعاصر، التي تبحث في سياسات الهُوية والهجرة والعولمة، وانتقاد الدولة وسلطة الدولة، وإعادة تصوّر الذاكرة التاريخية، من أدوات الترويج الثقافي التي تناسبت مع وجهة الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وهي تستخدم اليوم، بتمثيلها للروح الليبرالية، كوسيلة ملائمة لإحلال رؤية إيديولوجية جديدة، وبالتالي سياسية للمنطقة العربية، من خلال تدريبها جيلاً جديداً من القيادات الثقافية، وبالتالي السياسية.