في كلام تردده دوائر غربية عن لبنان، يُحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية إلى القيادات اللبنانية من دون استثناء. فالانفصال واقع بين ما تبديه دول خارجية حول مستقبل لبنان، وأداء المسؤولين حيال الأزمات الكبرى التي تعصف به. ما يجري منذ أسابيع على خط بعبدا - عين التينة واحد من المسارات التي لا يبدو أنها تسير في اتجاه الاعتراف بحجم أزمة لبنان الكبرى، بقدر ما هي استكمال لسنوات الصراع وانعدام الثقة بين رئيسي الجمهورية ميشال عون ومجلس النواب نبيه بري. فلا يكاد رئيس الجمهورية - ومعه رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل - ورئيس المجلس النيابي يطويان صفحة من صفحات خلافهما حتى يفتحا صفحة جديدة أشد إيلاماً. لكن هذا الصراع بدأ يصبح مكلفاً أكثر من أي وقت مضى، مع ازدياد حدة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي. والكلفة العالية ليست مرتبطة فحسب بترتيبات الانتخابات الرئاسية، بل باستحقاق الانتخابات النيابية الذي يختلف الطرفان على إدارته حالياً، ولا يستبعد خصومهما أن يلتقيا سوياً على مصلحة تطييرها.كلا الطرفين يعدّان عدة المواجهة، من الآن وإلى أن يطوي العهد آخر أيامه. وإذا كان بري يريد أن ينغص على عون أشهره الأخيرة في بعبدا، فإنه كذلك بدأ يجمع أوراقه لرسم مسار ما بعد انتهاء الولاية. وهو يحاول التقاط كل فرصة سانحة، أولاً في إعادة الإمساك بقرار المجلس النيابي، بعد قرار المجلس الدستوري والردود المتبادلة بينه وبين بعبدا حول العقد الاستثنائي وصلاحية تفسير الدستور، وثانياً من خلال إعادة لمّ شمل حلفائه وإعادة تحريك المياه السياسية الراكدة. فالرئيس سعد الحريري عائد إلى بيروت، ولا ينفك برّي يوجه إليه الدعوة تلو الأخرى، متمنياً عليه المشاركة شخصياً في الاستحقاق الانتخابي، وهو ما قد لا يتحقق. ورغم أن وجود الحريري في الانتخابات يختلف تماماً عن مشاركة تيار المستقبل من دون زعيمه، إلا أن بري يعوّل على احتمال أن يجعل من تقاطعه مع المستقبل، مساحة مشتركة في وجه عون وباسيل، لا سيما أن التيار الوطني سيتضرر من حجب الأصوات المستقبلية السنية في دوائر كان تقاطع فيها معه في انتخابات عام 2018. وحقّق بري نقلتين إضافيتين في مباراته مع عون وباسيل. ففي زيارة رئيس تيار المردة سليمان فرنجية إلى قصر بعبدا، إعادة تظهير المرشح الرئاسي في وجه المرشح باسيل، وهو أمر يضعه سياسيون في خانة بري وليس في خانة حزب الله. أما النقلة الثانية فهي تحريك الشارع من زاوية المطالب المعيشية، وهذا الأمر الذي يتحكم به بري يترك تساؤلات عن الخطوة التي تليه، في ضوء الصراع المستحكم بين الطرفين وإمكان استخدام الشارع في محطات لاحقة.
زيارة فرنجية إلى قصر بعبدا إعادة تظهير للمرشح الرئاسي في وجه باسيل


في المقابل، لا يملك عون من العدّة الكثير في الوقت المتبقي له في قصر بعبدا، رغم أنه مستمر في ممارسة صلاحياته. لكن جرت العادة في السنتين الأخيرتين من عهود الرؤساء أن تمر أشهرهم الأخيرة من دون إنجاز يذكر. فكيف الحال اليوم والسنتان الأخيرتان حفلتا بكل أنواع التراجعات. فـحتى «صلاحية» عقد طاولة الحوار سحبت منه بفعل الأمر الواقع بعد اعتذار الحريري والقوات وموقف الحزب التقدمي الاشتراكي، لتضاف إلى كل ما تمت معارضته فيه من عناوين طرحها في رسالته الأخيرة، وعززها باسيل لمرتين في مؤتمره الصحافي الأول والثاني المطول أمس من قصر بعبدا، معيداً توجيه رسائله إلى الفريق الذي يقارعه.
لا يملك عون ترف الوقت الذي يملكه بري، خصوصاً إذا لم تجر الانتخابات النيابية. وفيما يملك باسيل الوقت الكافي قبل نهاية العهد وبعده، إلا أن الواقعية تفرض أنه بدأ، تباعاً، يفقد بعض أدواته التقليدية. فعدم انعقاد مجلس الوزراء وتطيير التعيينات التي هو في أمسّ الحاجة إليها قبل الانتخابات وانتهاء العهد، من الأوراق التي يخسرها. ولا يوجد عاقل يمكن أن يعتقد بأن بري سيسهل عليه التعيينات في مجلس الوزراء ولو انعقد بسحر ساحر، أو يعطيه شيكاً على بياض فيها. والواقعية تفرض أيضاً القول إنه على طريق إجراء الانتخابات، ومهما بالغ فريق باسيل في تصوير الأرباح المسبقة، فإنه يستفيد من تطيير الانتخابات. وهذه النقطة الفصل التي يصر خصومه على أنه سيتلاقى مع بري، بدعم من حزب الله، على عدم إجرائها. والمقارعة الحقيقية، من الآن وحتى الاستحقاقين، ستكون في ذهاب بري إلى أقصى ما يمكنه في عدم تسهيل ما تبقى من ولاية عون وامتلاك الكلمة الفصل «دستورياً» في أي مخرج مطروح لما بعد انتهائها. في مقابل معركة باسيل التي قد تكون الأكثر كلفة في حياته السياسية، لأنها سترسم الحد الفاصل بين مرحلتين لمرشح رئاسي ورئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية وحليف الثنائية الشيعية ورئيس تيار المستقبل، وحالم بالمشرقية والانتشار، لم يعتد بعد الخسارة في ظل رئيس للجمهورية تنتهي ولايته بعد تسعة أشهر.