بدولار واحد في اليوم تعيش أسرة في صحراء الشويفات، وأخرى في الكرنتينا بأقل من هذا الحد في أغلب الأيام. فيما لا يزال البعض يسأل بتهكّم «أين هو الانهيار؟»، في إيحاء بأن اللبنانيين يمارسون نمط حياةٍ فيه من الرفاهية ما لا يتوافق والأزمة الاقتصادية، من ارتياد المقاهي والملاهي الليلية وصالونات التجميل ومحال بيع الحلوى وزحمة ما قبل الأعياد. وجهان لبلدٍ يعيش مواطنوه على ضفتي نقيض، وعن قصدٍ أو غير قصد يسلّط الضوء على مظاهر الحياة الصاخبة فيه، وكأنها صورته التي لا تزال عنه، متناسين أن «الموت» صامت، يسكن خلف الأبواب المغلقة لمنازل أحزمة البؤس الآخذة بالتوسّع إلى ما بعد حدود الضواحي، حد ابتلاع ما تبقى من عاصمة وأطراف.«الموت» بمعناه المجازي هنا، وبلسان حال أسر مسحوقة، يصبح أثقل عندما تجد الأسر نفسها فاقدة لأدنى مقومات الحياة، وتحيا فقط لعدم توافر أسباب الموت. أوليس موتاً حين تتمنى أم أن يتبنى أحدهم أبناءها الثلاثة لعجزها عن إطعامهم؟ وتقفل أخرى النوافذ لتمنع تسلل رائحة الطهي من مطابخ جيرانها الملاصقة لمنزلها.
في أحد مباني صحراء الشويفات، تقطن (هيام/ 22 سنة)، زوجة رقيب في الجيش اللبناني لا يتبقى من راتبه سوى 800 ألف ليرة، بعد حسم إيجار المنزل وفاتورة المياه، في بلدٍ تشير الدراسات إلى أن كلفة معيشة الأسرة (4 أفراد) فيه تفوق بالحد الأدنى الـ10 ملايين ليرة. تحتضن المرأة أطفالها الثلاثة في يومٍ بارد من أيام كانون الثاني، مستعينة بغطاء شتوي بدلاً من المدفئة. كلفة اشتراك المولد الكهربائي للخمسة أمبير تناهز مليوناً ومئتي ألف، ولا قدرة للعائلة على «التمتع» بتلك الخدمة، وكهرباء الدولة نسي اللبنانيون وجودها، أما «جرّة» الغاز فتخطى سعرها الـ300 ألف والأولى استخدامها للطهي. والطهي، هنا، في كثير من الأوقات عبارة عن «شوربة» ما تبقى من عظام لدى لحام الحيّ. وبما أن مصروف العائلة اليومي لا يمكن أن يتخطى الـ35 ألف ليرة، لهذا النوع من الأسر لائحة مأكولاتٍ «خاصة كالأرز» والشعيرية طبقاً وحيداً، أو المعكرونة المسلوقة الخالية من شراب البندورة أو اللحم، أو سندويش البطاطا المقلية، وواهم من يتخيّلها مع «مايونيز» أو «كاتشاب» أو خضارٍ مثلاً. والأخيرة لا تتوافر في المنزل إلا في حال وُفّقت هيام ببقايا مخصصة للتلف في محال بيع الخضار بحجة أنها لإطعام دجاجات تربّيها.
تقنين الاستهلاك هو الأسلوب الوحيد لبلوغ نهاية الشهر. ويبدأ من «تقنين» الحفاضات لطفلها البالغ من العمر سنة وأربعة أشهر، والذي عليه تحمّل نفسه من السادسة مساءً حتى صباح اليوم التالي، الموعدين المحددين للتبديل، وتحمّل ما ينتج من ذلك من مشاكل صحية، طالما أن سعر كيس الحفاضات (عدد 20) يساوي 100 ألف ليرة. وفي الأيام المتبقية تلجأ هيام إلى القماش وكيس الخبز لصنع حفاض لابنها الذي اتخذت قراراً بفطمه عن الحليب وكأنها بفطرة الأم تتمنى تجنيبه اختبار الأسوأ القادم. وهي بدورها استبدلت الفوط الصحية بقطع قماشٍ شأنها شأن كثيرات من اللبنانيات بات موعد الدورة الشهرية يقلقهن. ينسحب التقنين على أيام الاستحمام التي يُكتفى في معظمها بالماء ويترك استخدام «الشامبو» لأيام محددة.
ثلاجة المنزل فارغة تماماً، ما خلا بعض الأدوية الأولية حصلت عليها الأسرة كمساعدة يوم أصيبت ابنتها الكبرى بوعكة صحيّة. ابنة السنوات الست كفّت عن طلب المشتريات كبقية رفاق الصف، خوفاً من سماع عبارة «ما معي مصاري» هذا ما أخبرته لوالدتها في الطريق المؤدية إلى مدرسةٍ قريبة من المنزل يتفهّم مديرها الحال المزرية للعائلة العاجزة عن دفع ليرة واحدة من الأقساط وتكاليف القرطاسية.
في خضم الصراع اليومي على البقاء، تطرح هيام جملةً من الأسئلة المشروعة، مدركةً أنها من النوع الذي لا يُنتظر منه إجابات، بقدر غايتها من إيصال رسالة إلى قائد جيشٍ لم تعد فكرة الفرار بعيدة من عقل أي جندي من جنوده، حول دوره في حماية «أبنائه»، وعن مدى علمه بـ«شعورهم بالشفقة في أعين الناس» لمجرد أنهم عسكر.
من صحراء الشويفات إلى الكرنتينا خط مستقيم من الحرمان والبؤس والذل والنكبة. الدروب كلّها تؤدي إلى نفقٍ مظلم دخلت فيه البلاد بمختلف طبقاتها، بما فيها تلك التي تمتّعت ببهجة الأعياد على اختلاف حجم الثمن الذي دفعته وستدفعه مقارنة بالطبقات الأكثر هشاشة.
لا تختلف تحديات مروى عن تحديات هيام بقسوتها. بغياب الزوج وعمل السيدة الأربعينية في تنظيف المنازل عند الطلب، تفقد الأسرة المؤلّفة من 5 أفراد أي دخلٍ ثابت، وهو في أي حال لا يتعدى الـ700 ألف ليرة. في يوم العمل تتقاضى مروى 60 ألفاً عليها ادخار جزء منها لأنه قد تأتي فترة لا تطلبها أي من السيدات الثلاث اللواتي يستعنّ بها كما حصل لأشهر في فترة الإقفال التام العام الماضي.
أحزمة البؤس آخذة بالتوسّع إلى ما بعد حدود الضواحي حد ابتلاع ما تبقى من عاصمة وأطراف


والحال كذلك، تراكمت بدلات إيجار المنزل وفواتير اشتراك المولد الكهربائي وديون محل السمانة. ورغم اقتصار وجبات العائلة الغذائية على واحدة فقط، بقيت مروى عاجزة عن توفيرها بشكل يومي، معتمدة على ما تعود به من فضلات مأكولات الأسر الثلاث التي تعمل لديها. ابنها الأصغر (13 سنة) يمتنع عن الذهاب إلى مدرسته بمعدة خاوية، رافضاً «إحسان» رفاقه وأساتذته عليه ببقايا طعامهم. أما ابنتاها (17 و20 سنة) فتتغيبان عن صفوفهما أثناء الدورة الشهرية، باستثناء أيام تقديم الامتحانات بعد «استعارة» فوطة صحية من الجارة لابنتها الكبرى، الطالبة في الجامعة اللبنانية، والتي حلّت في المرتبة الثانية في اختصاص الترجمة، وحصلت على منحة دراسية شاملة التكاليف في الصين، تعجز عن الاستفادة منها لعدم القدرة على دفع تكاليف جواز سفرٍ وأوراق مطلوبة.
وسط غليان أسعار الدواء وتحكّم مافيا الدواء بصحة العباد، شطبت مروى منذ نحو شهرين شراء الأدوية من قائمة المصاريف مع علمها الكامل بخطورة تفاقم مشاكل الغدة التي تعاني منها، وكذلك ابنتها المصابة بالربو.
تحدثّت الكثير من الدراسات والتقارير المحلية والخارجية عن نسب الفقر في لبنان، والأمن الغذائي المهدد، وتوقع البعض مجاعة محتملة. وعلى أهمية لغة الأرقام لعكس واقع ما، بقيت الحاجة قائمة للدخول إلى يوميات أسرٍ موجودة في كل حيّ، إذ لم يعد القهر حكراً على قاطني الخيم أو البيوت المتهالكة كما اعتدناه.
لا يحتاج هذا النص إلى خلاصات واستنتاجاتٍ وخواتيم، بقدر حاجة الشريحة التي يمثّلها النموذجان الواردان فيه إلى سياساتٍ اجتماعية واقتصادية، تحميها من هشاشتها، وتحمينا جميعاً، قبل أن يُحكَمَ علينا بعضنا تلو الآخر، بخاتمةٍ كهذه.