السياسات التربوية في لبنان ملتبسة ولا تُحقّق غايات التعليم، بل تعيق تطبيق مفهوم «العدالة في التعليم» المنصوص عنه في المواثيق الدولية، والذي تسعى المؤسسات الدولية والمانحة إلى تحقيقه، إذ إنها لا تُلغي التمييز ولا تقدّم فرصاً متساويةً للأطفال والمراهقين أو فرص عمل للمتخرجين من الجامعات. فرغم التزام لبنان، مثلاً، «إعلان إنشيون» (كوريا) للتعليم عام 2015، والعمل لتحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة 2030 (ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع)، لا تزال عوائق تحقيق عدالة التعليم تتزايد، بسبب ممارسات المسؤولين السياسيين التي تنتج اضطرابات اجتماعية واقتصادية وتفاقم الفقر والبطالة، ما يؤدي إلى ارتفاع نسب الأطفال المحرومين من التعليم، إضافة إلى التسرّب والتمييز وضعف جودة التعليم وانعدام الأفق.ولا يعود الفشل فقط إلى الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية أو الحروب، بل إلى قصور الرؤى المستقبلية لدى أصحاب القرار، ما يعزّز التفاوت واللامساواة ويشكّل بيئة مناسبة لتفاقم الأزمات والتوترات، إذ ثمة تفاوت كبير يحول دون تحقيق العدالة في التعليم بين المدن والأرياف، وبين الفقراء والميسورين، وبين الإناث والذكور، وفي توزيع المدارس وجودة التعليم وفقر التعلّم والحرمان منه.
الأزمة تفاقمت مع انتشار جائحة «كورونا»، وتخشى منظمة اليونسكو للثقافة والتعليم أن تطاول تداعياتها مجالات عدة، منها التقدّم المحرز في مكافحة الفقر والتسرب المدرسي وغيره. ويظهر تقرير مشترك لليونيسف واليونسكو والبنك الدولي بعنوان «فاقد التعلّم» بسبب «كوفيد- 19» أرقاماً صادمة حول التسرّب، كما يشير تقرير لمنظمة Save the children عن عام 2020 - 2021 إلى أنه بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية، فإن أكثر من 737 ألف تلميذ من أصل مليونين تراوح أعمارهم بين 4 أعوام و15 عاماً، من اللبنانيين والأطفال اللاجئين، لم يلتحقوا بالمدرسة هذا العام، أي ما يعادل ثلث عدد الأطفال في سنّ الدراسة.
أرقام التقرير الأول تعود إلى ما قبل الجائحة، ما يعني أنّ الأزمة عميقة، وأن التدخّل الحكومي وتدخّل المؤسسات الدولية خلال العقدين الأخيرين لم يكونا بالمستوى المطلوب. وبالتالي، لا يمكن الكلام عن عدالة في التعليم في ظل الفروقات الشاسعة بين الفئات الاجتماعية، ولا عن الفرص المتساوية بين الأطفال، ولا سيّما بعد الجائحة التي ظهّرت أزمة التعليم، قبل الجائحة وبعدها، بشكل لا يمكن تجاوزه.
السياسات الحكومية التربوية الغائبة أو غير المحدّثة وغير المرنة انعكست سلباً على واقع التعليم وجودته وعدالته. وعزّزت الفوارق واللامساوة والتمييز بين المكوّنات الاجتماعية، وأتاحت فرص نشوء تعليم خاص بديلاً من التعليم الرسمي وفّر للطبقات الميسورة تعليماً متقدماً حديثاً ومعاصراً أو عقائدياً دينياً أو غيره، وتمكّن من التوسع والهيمنة مقابل تعليم رسمي لا يحظى بالدعم الكافي ولا بالتحديث المطلوب والمتكيّف مع متطلبات الجودة.
من المؤكّد أن لبنان يسير مساراً انحدارياً في التربية والتعليم، وعلى الحكومات أن تعمل جدّياً على تغيير جذريّ في نظمها ورؤيتها وسياساتها التربوية، نظراً إلى طبيعة العلاقة المتأصّلة بين التعليم والتنمية المستدامة. ولا يكفي أن تضع اليونسكو إطاراً عاماً أو تصورات أو تعمل على عقـد اجتماعي جديد للتربية والتعليم لتلتزم بها الحكومات والدول الموقّعة على «إعلان إنشيون» وغيره من العهود الأممية، بل عليها أن تلتزم وتُلزم الدول المعنية بمبدأ التعليم كمنفعة عامة مشتركة. ورغم المساعدات التقنية والمالية لدعم التعليم والطفولة، لم يحقق لبنان العدالة في التعليم، بل تراجع نوعاً، في مقابل تحسّن طفيف كمّاً في خفض نسب الملتحقين بالمدارس وتعليم الإناث خلال العقدين الأخيرين. ونحتاج اليوم إلى رؤية بديلة لعجز الحكومات عن إيجاد حلول عادلة ومتساوية وحمائية للطفولة ولحقوق المعلمين وأولياء الأمور.
الغريب في الأمر أن المؤسسات الدولية التي تُصدر تقارير عن التفاوت واللامساواة تدعم برامج الحكومات اللبنانية والتشريعات التي تكرّس هذا التفاوت، وآخرها محاولة تجميد المادة 2 من القانون 515/96 الذي يزيد الخلل بين الفئات الاجتماعية ليسمح برفع الأقساط المدرسية في القطاع الخاص من دون ضوابط، فيجعل التعليم حكراً على الميسورين، وبعض التشريعات كإقرار مساعدة للقطاع الخاص بقيمة 350 ملياراً مقابل 150 ملياراً للرسمي ليست إلا تعبيراً عن نية الحكومة المضي في تكريس التفاوت، بينما موازنة وزارة التربية للتعليم (وفق سعر الصرف الرسمي) لا تتعدى ملياراً و330 مليون دولار (موازنة 2020، ضمنها الإيجارات ورواتب الموظفين والمعلمين والمصارفات الإدارية والمنح...)، وفي وقت يدفع أولياء الأمور ما قيمته مليارا دولار أقساطاً للمدارس الخاصة (3 آلاف دولار متوسط القسط لـ 700 ألف تلميذ في الخاص شبه المجاني وغير المجاني)، ناهيك عما تتقاضاه إدارات المدارس خارج الموازنة المدرسية.
* باحث في التربية والفنون