المنطق الوحيد الذي يحكم تقلّبات سعر الصرف هو «الكازينو». مصرف لبنان هو «الكازينو». هو من يقرّر أي لاعب يربح وأي لاعب يخسر. هذا الكازينو قرّر، في الفترة الأخيرة، أن يضخّ دولارات ورقية في السوق. الضخّ يتم عبر المصارف، ومنها للمودعين مباشرة، بعد حسم قيمة الخسارة اللاحقة بودائعهم. إذ بات في إمكان هؤلاء «سحب» دولاراتهم العالقة في المصارف على سعر 8000 ليرة، وشراء الدولارات الورقية على السعر الوسطي المسجّل على منصّة «صيرفة» في اليوم السابق. بهذه العملية صار كل «دولار مصرفي» يساوي 33 سنتاً مدفوعة نقداً، بدلاً من 27 سنتاً. وبهذه العملية، أيضاً، تحصل المصارف من مصرف لبنان على حصّتها الشهرية بالدولارات الورقية بدلاً من الليرات الورقية وفق سعر المنصّة أيضاً.جرى إيهام المودعين - اللاعبين في الكازينو - بأنهم يربحون من كل دولار يُسحب من المصارف نحو 6 سنتات، فيما هم في الواقع يخسرون، بعدما خسروا، أصلاً، 67% من قيمة دولاراتهم المودعة في المصارف. لكنهم رغم ذلك يتهافتون لتحصيل الفرق باعتباره ربحاً لهم! قد يكون مفهوماً أن يعيش موظفو القطاع العام حالة التهافت هذه لتعويض الخسائر في مداخيلهم الثابتة بالليرة والتي لم تجرؤ الحكومة على تصحيحها بعد، لكن اللافت أن يتهافت المودعون من أجل بضعة سنتات إضافية وضمن سقوف سحب منخفضة، وكأنهم لا يعلمون بأن ما يعطيهم إياه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة بيده اليمنى، يأخذه منهم بأياد كثيرة أخرى. فهم سدّدوا، ولا يزالون، كلفة كبيرة مصدرها العمليات التي نفّذها مصرف لبنان منذ أيلول 2019 لغاية اليوم. فمنذ ذلك الوقت، تضخّمت الأسعار بمعدل 7 مرّات بالحدّ الأدنى، فيما تضخّم سعر الدولار مقابل الليرة بمعدل 20 مرّة. وهذا الفرق بين الاثنين، يعني أن تضخّم الأسعار سيتواصل أكثر فأكثر في الفترة المقبلة، حتى لو توقف الدولار عن التضخّم وأصبح ثابتاً عند 30 ألف ليرة. تضخّم الأسعار تزامناً مع ارتفاع سعر الدولار مقابل الليرة، هو مسألة وقت فقط. الهامش بين تطوّر الأسعار وسعر الصرف يفترض أن يضيق مع الوقت، أو على الأقل هذا ما يشير إليه تاريخ العلاقة بين مؤشري سعر الصرف ومؤشر الأسعار منذ عام 1977 لغاية تثبيت سعر الصرف في مطلع التسعينيات. بالعكس، تشير هذه العلاقة تاريخياً (راجع مقال مؤسسة البحوث والاستشارات في الأخبار بعنوان: الأسوأ لم يأت بعد، والمنشور في 28 نيسان 2020) إلى أنه في مرحلة ما سيكون مؤشّر تضخّم الأسعار أعلى من مؤشّر سعر الصرف.
في المحصّلة، يدفع المقيمون في لبنان ضريبة التضخّم التي فرضها سلامة عليهم بغطاء المنظومة السياسية. سلامة، مدير كازينو مصرف لبنان، قرّر أن تكون الخسارة ضمن إطارين: تضخّم الأسعار التي تأكل قيمة المدخرات والمداخيل في الوقت نفسه، ومسار الهيركات على الودائع عند سحبها من المصارف مباشرة. القلّة التي تجنّبت هذه الخسارة هي الجهات التي قرّر سلامة وسائر المصارف وشركاؤهم في النظام المالي أن يجنّبها الخسائر. هذه الجهة ينضوي فيها نافذون سياسيون، أصحاب مصارف، رجال أعمال، كبار المودعين، موظفون في القطاع العام، موظفون في مصرف لبنان والمصارف… هؤلاء أُتيح لهم الهروب من مسار «الهيركات» المباشر رغم أنهم أصيبوا بخسائر التضخّم وإن كانت لديهم قدرة واسعة على احتمالها بعد كل ما راكموه من أرباح على مدى عقود، مستفيدين من فجوة اللامساواة في الدخل والثروة، وبكون النظام المالي كان يعمل لمصلحتهم.
تهافت على سحب 6 سنتات إضافية من كل دولار مصرفي


أكبر الخاسرين، هم أصحاب الدخل والودائع بالليرة. خسروا اليوم كما خسروا في الماضي. ففي العقود الأخيرة، كان كازينو مصرف لبنان يدير عمليات توزيع المال العام عبر آليات مختلفة مثل مقايضة شهادات الإيداع مع المصارف على سندات خزينة رغم فارق الفائدة، إقراض المصارف بفوائد متدنية، دعم القروض الاستهلاكية وإغراق الأسر والاقتصاد بديون تفوق الناتج المحلي الإجمالي، الهندسات المالية، وسواها. كانت حصّة هؤلاء من عمليات التوزيع متواضعة إن لم تكن معدومة، وإن نالوا نصيباً منها فكان هذا النصيب يضعهم على أبواب الزعيم السياسي ليصبحوا زبائن سياسيين مقابل حصّة متواضعة من عملية توزيع الثروة والدخل. في هذا الإطار انضوى هؤلاء في القطاع العام الإداري والعسكري كموظفين، فيما كانت هناك وسائل ابتزاز أخرى مثل الحصول على التغطية الصحية، أو الاستفادة من برنامج ما في المشروع الأخضر أو مساعدات زراعية أو من دعم التبغ أو من التوظيف في المؤسسات العامة وفي التعليم...
كل ذلك كان عبارة عن نشاط معلن للكازينو. أما بعد الانهيار، فقد تحوّل الكازينو نحو نشاط مقنّع لإدارة عملية التوزيع التي باتت محصورة بالدعم في ظل إفلاس الموازنة وعدم كفايتها لتلبية الرواتب والأجور. وبقي للكازينو نشاط يتعلق بعمليات مكتومة لتحويل الأموال التي يملكها النافذون إلى الخارج. لكن فجأة، قرّر كازينو مصرف لبنان أن يقدّم لرواده لعبة جديدة يوهمهم فيها بالربح رغم انكشاف ألاعيبه السابقة كلها! بتعميم واحد ابتدع لعبة «صيرفة». وعلى هذه المنصّة، أدرج كل العمليات التي يقدر أن يجمعها عبر المصارف والصرافين والمؤسسات المالية الأخرى مثل OMT وسواها، ما أدّى مباشرة إلى نفخ حجم العمليات على هذه المنصّة من مليوني دولار يومياً إلى 14 مليون دولار. كان يفترض بهذه المنصّة أن تكون نقطة انطلاق لتوحيد سعر الصرف وأن يُتاح لها لاحقاً لتعبّر عن سعر الصرف الفعلي في السوق الحرّة، لكن مع التعميم 161، أصبح بإمكان المودعين الحصول على هامش إضافي من الدولارات العالقة في المصارف يبلغ 25%. اعتبروا أن هذا الهامش هو ربح، فيما هو جزء بسيط من أصل المبلغ.
كان الهدف من ألاعيب الكازينو الجديدة أن يمتصّ السيولة بالليرة، وأن يضخّ الدولارات في السوق من أجل تهدئة سعر الصرف. النتيجة جاءت مختلفة تماماً. فقد تبيّن أن هناك كميات كبيرة من الليرات المتوافرة في السوق فضلاً عن أن مصرف لبنان ليس بإمكانه امتصاص كتل كبيرة من الليرات طالما أنه ملزم بتمويل الرواتب بالليرة للقطاعين العام والخاص. هكذا أصبح الكازينو أسير لعبته التي خلقت اعترافاً مباشراً بوجود سعر السوق الحرّة من دون أن تتمكن من تهدئة سعر الصرف الذي انخفض ليومين قبل نهاية عام 2021 وبقيمة ثلاثة آلاف ليرة فقط (من 29 ألف ليرة إلى 26 ألفاً)، ليعاود في مطلع السنة الجديدة تسجيل رقم قياسي يبلغ 30500 ليرة.
وما تبيّن، بحسب المعلومات، أن اللعبة تبدأ في كازينو مصرف لبنان وتنتهي هناك أيضاً. فالمصرف المركزي للبنان يمنح المصارف حصّتها من الليرات الورقية بالدولارات، والمودع بحسب التعميم 161 يستفيد من سحب هذه الدولارات على سعر المنصّة، ويبيعها للصرافين لتحصيل الفرق (مقابل كل 1000 دولار تُسحب من المصرف وفق سعر 8000 ليرة (8 ملايين ليرة) يحصل المودع على 355 دولاراً ورقياً يبيعها للصرافين بقيمة بلغت أول من أمس 10.6 مليون ليرة، أي أن اللعبة تمنحه أكثر من مليونين ونصف مليون ليرة). وتكتمل الحلقة بشراء مصرف لبنان الدولارات من الصرافين ومن باقي المؤسسات المالية ولا سيما OMT ليضخها في السوق وفق آلية التعميم 161 ثم يشتريها على منصّة «صيرفة»؟ بأي سعر يشتري مصرف لبنان هذه الدولارات، وما هي كلفة ضخّها في السوق؟ ليست هناك شفافية في منصّة «صيرفة» ليكون بالإمكان معرفة حجم الخسائر التي ترتبت على مصرف لبنان. سيقال إن هذه الخسائر بالليرة وإن مصرف لبنان هو الجهة التي تطبع الليرات وترحّل خسائر الطباعة للمستقبل، لكن بالإضافة إلى هذه الخسائر، تنتج من ضخّ هذه الأموال في السوق خسائر إضافية تتعلق بتغذية الطلب على الدولار، وبتضخّم الأسعار. هنا نعود إلى المسار الأول لتوزيع الخسائر. المساران مرتبطان. فمحاولة امتصاص الليرة لم تنتج سوى ارتفاع في سعر الدولار وتضخم أكبر في الأسعار يفرض المزيد من الخسائر على كل المجتمع. الكازينو يربح دائماً.

مزاعم جاهزية موازنة 2022
أعلن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي أمس أنه سيدعو الحكومة إلى الانعقاد في غضون أيام بعدما أبلغ رئيس الجمهورية ميشال عون بأن «موازنة عام 2022 باتت جاهزة وسيتم استلامها خلال اليومين المقبلين». لكن مصادر مطلعة، أشارت إلى مزاعم ميقاتي عن جاهزية الموازنة تأتي في إطار المراوغة السياسية، بل إن ميقاتي واهم بأن الموازنة ستُنجز خلال يومين، إذ إنه لم يتفق على أي من الأموال الأساسية التي تحدّد أرقام الموازنة وتوجهاتها. فعلى سبيل المثال، الموازنة مكوّنة من رواتب وأجور ومن نفقات تشغيلية ونفقات الدين العام وخدمته، ونفقات أخرى. لذا، من المهم تحديد حجم الرواتب والأجور لاحتساب النفقات، ومن المهم أيضاً تحديد سعر الصرف لتحديد كلفة النفقات التشغيلية. وبطبيعة الحال يجب تحديد الإيرادات بناء على تقديرات النفقات، فما هو مستوى الإيرادات الذي يمكن جمعه من اقتصاد ناتجه المحلي تقلص من 55 مليار دولار إلى 22 ملياراً؟ وكيف سيتم تمويل الزيادة في الرواتب والأجور الضرورية لاستمرارية القطاع العام وموظفيه؟ إلا إذا كان ميقاتي يريد أن يفاقم العجز في الخزينة أو أن يفاقم خسائر الموظفين. وماذا سيكون انعكاس زيادة الضرائب لتمويل زيادة النفقات؟ أي نفقات تحتلّ الأولوية في الموازنة؟ بأي أسعار سيتم التعامل مع الدين العام بالعملة الأجنبية وما مصير الدفعات التي توقف لبنان عن سدادها؟ أي دولار سيعتمد لجباية فواتير الاتصالات والكهرباء؟ أي كلفة للكهرباء في ظل تأخر وصول الغاز المصري؟ أي إصلاحات سيتم فرضها في الموازنة؟ أساساً أي توجهات للحكومة بشأن النفقات والإيرادات؟ تقشّف؟ ثمة الكثير من الأسئلة التي أعدّت حولها سيناريوهات كثيرة من دون أن يحسم أي منها، أو أن يتم طرح أي من السيناريوهات بجديّة، لا سيما أن كل تغيير في أي مكوّن ينعكس على الآخر.