مقاسات اللبنانيين ليست واحدة على الإطلاق. المسألة تتجاوز تطلّبات العيش ونوعيته. بل تتصل، أولاً وأخيراً، بالشغف الذي لا يمكن توحيده عند الناس. ليس هناك لبنان واحد نتحدث عنه. حتى معايير الوحدة الوطنية ومعنى الاستقلال وهوية العدو لم تكن واحدة في أي مرحلة من تاريخ هذه البلاد. وهذه المعضلة تجعل أصحاب الرأي الداعي إلى البحث عن نمط مختلف للتعايش بين المجموعات اللبنانية يتعبون في إيجاد الإطار الأنسب. صحيح أن البعض يصرّحون بأن لبنان هو، في حقيقة الأمر، بلدان عدة. لكنهم يفعلون ذلك نكاية بخصومهم. إذ لا يملكون حجة أو دليلاً على إمكانية التقسيم أو التجزئة. والعجز، هنا، لا يتعلق بالرغبة أو حتى بالقدرة المادية أو العسكرية أو خلافه. بل إن العجز مردّه استحالة تكوين بلدان في بلد مشكوك أصلاً في شرعية قيامه كدولة متكاملة. لذلك، فإن الراغبين ببلد من نوع مختلف، إنما يهربون من الأسئلة القاسية حول: كيف ندير بلداً كهذا، ومن أين نأتي له بهوية موحّدة، أو حدود محمية، أو اقتصاد متين، أو دور حيوي؟أما الصراحة والمكاشفة بين اللبنانيين فلا يعدوان كونهما محض رياء. ليس بين الناس من تفاهم ثابت على ما يتجاوز الإعجاب بهذه القطعة من الأرض. ورغم أنها ليست فريدة من نوعها، لكن فوضاها هي العنصر الجاذب. وهي الفوضى التي يخشى اللبنانيون الإقرار بأنها الشريط اللاصق للقبائل اللبنانية. الفوضى التي تعني أنه لا يمكن أن يكون هناك قانون واحد يطبّق على جميع الناس. والفوضى التي تعني أن الدستور مجرّد كتاب لا يستخدم حتى للزينة في البيوت. والفوضى التي تمنع رسم الحدود بين الحق العام والحق الخاص، وبين الواجبات والحقوق. والفوضى التي تجعل الحرية فعل صراخ لا فعل تغيير أو محاسبة، وتجعل السرقة والتهرب الضريبي والزبائنية وسائل لتعديل ميزان الثروة بين الناس. والفوضى التي تجعل من المستحيل على فريق سياسي أو طائفي أو خارجي الإمساك بكل البلاد دفعة واحدة. والفوضى التي تمنع توافقاً على كتاب للتاريخ أو مناهج متطابقة للتعليم أو مساواة في الفرص. هي الفوضى التي تجعل شاباً لبنانياً هرب إلى أميركا بحثاً عن عدالة واستقرار، يفتقد القدرة على ملاعبة القوانين للحصول على ورقة لأن النظام الإداري يلزمه الانتظار شهوراً لا أسابيع فقط. والفوضى التي تجعل اللبناني يلتزم طوعاً نظام إشارات السير في أول عاصمة يغادر إليها، فيما يتجاوز شرطي السير بعد مغادرته صالة الوصول في مطار بيروت. الفوضى التي تجعل تسعير السلع نظاماً فريداً في العالم. والفوضى التي تمنح اللبناني، باسم الحي أو المنطقة، المذهب أو الطائفة، الحزب أو الجماعة، السفارة أو الدولة... أن يفعل ما يعتقد أنه الأكثر صواباً!
كما تعوّدنا طويلاً على خنوع جماعات أميركا وممالك الصمت، على خصوم المقاومة التعوّد على أنها لا تعيش معهم في صمت القبور


من يسمع، أمس، ردود الفعل على خطاب السيد حسن نصرالله الذي ردّ فيه على اعتداء ملك مملكة القهر، يعود إلى القاعدة نفسها. لا حاجة لشرح طبيعة العلاقة النفعية المباشرة القائمة بين هؤلاء وبين السعودية. لكن مشكلة هؤلاء أنهم يتهمون نصرالله بأنه إيراني ينطق بهوى إيران ويعرّض مصالح لبنان واللبنانيين للخطر، ويريدون لأنصار المقاومة في لبنان ومريديها تحمّل كل أنواع العدوان، اللفظي والجسدي والمعنوي، الذي تقوم بها ممالك القهر منذ عقود بحق هذه البلاد وعبادها... ولا يجدون أنفسهم معنيين، ولو للحظة، بالردّ أو الاعتراض على بذاءة ملك مملكة القهر في إطلاق صفة الإرهاب على حزب هو الأكبر في لبنان، والأكثر (من أي جهة لبنانية) نفوذاً شعبياً وسياسياً في المنطقة والعالم. هؤلاء، في كل مناصبهم الرسمية والسياسية والحزبية والشعبية والطائفية والتجارية والإعلامية والحقوقية، لم يجدوا أنفسهم معنيين بالتعليق ولو غمزاً... فهل كان صمتهم خشية أو موافقة لملك مملكة الموت على ما يقوله؟
لنضع المنفعة والتكاذب جانباً. في لحظة الحقيقة، ينطق هؤلاء بما يجعلهم ضعافاً أمام من يخشون غضبه. وهم، هنا، يقولون لقاعدة هذا الحزب إنهم لا يكنّون لها أي ودّ أو احترام أو تقدير ولا يخشون غضبها، فيما يخشون غضب الملك وأنصاره. لكنهم هنا يكذبون أيضاً، لأن غالبيتهم موافقة على ما قاله ملك مملكة الجهل. وهذا ما يعيدنا إلى مشكلة غياب الإجماع على عنوان حقيقي في هذه البلاد.
على هذا المنوال نسير جميعاً نحو المواجهة الشاملة في الانتخابات النيابية المقبلة. ووفق هذا المنطق ستقوم المعركة الحقيقية. وكل الشعارات الجوفاء لن يكون لها مكان في عقول أو قلوب الناخبين وهم يسيرون نحو صندوقة الاقتراع. حتى نظام المصالح الصغيرة لا ينفع في شراء ذمم كثيرين. الناس مهتاجة لأسباب تتعلّق بنظرتها الأصلية إلى هذا البلد. ومع هذه الوقائع، لا يعمل العقل أبداً، بل تحتل الغريزة المكان، ويسيطر الانفعال على اللسان أو أكثر. وعند هذا الحد، سيكون من الصعب على أحد محاسبة أو معاتبة أحد على ما يقوله.
وإلا، كيف يستقيم الأمر ولم يخرج اللبنانيون ليقطعوا رؤوس من يسرقونهم ليل نهار من دون رادع أو مانع حقيقي، أو احتجاجاً على ما يجري باسمهم ومن حولهم... وهم لا يخرجون لأنهم ليسوا على رأي واحد حيال ما يجري. لكل لبناني نظرته إلى هذا «الغريب» الذي نحمّله مسؤولية «حروب الآخرين على أرضنا». وهي حروب لا تنتهي، فيما لا نسأل أنفسنا عن هذه البلاد السائبة التي تبقى طوال الوقت ساحة لحروب الآخرين، ونهرب من حقيقة أنها حروبنا نحن... تجري بأيدينا ودمائنا وأرزاقنا.
ولأن الأمر على هذا النحو، لا ينبغي إظهار الدهشة من السجال القائم. وكما تعوّدنا طويلاً على خنوع وخضوع جماعات أميركا وممالك الصمت، وجب على خصوم المقاومة التعوّد على أنها لا تعيش معهم في صمت القبور. وكل كلام آخر، لا معنى له الآن!