في إحدى القرى الشوفية (المسيحية)، لا ينفك أهلها يتحدثون عن مساعدات غذائية تصلهم عبر «مؤسسة الفرح»، فيما لم يشاهدوا في ربوع قريتهم أيّ نائب من التيار الوطني الحر أو القوات اللبنانية. موسم الانتخابات عند الطرفين لم يبدأ بعدُ فعلياً. والبرد الشوفي يمنع المرشّحين من بدء جولاتهم الانتخابية، في انتظار تحسن الطقس الذي أرجأ الانتخابات إلى منتصف أيار بناءً على رغبة التيار. وإن كان الطرفان يضعان على طاولاتهما أسماء مرشحيهما إلى الانتخابات، في انتظار الطقس الربيعي وانكشاف معالم التحالفات جدياً، كي يحسما خياراتهما.في الجبل، ليس مبالغة الكلام عن أن المساعدات الغذائية «اشتراكية»، وأن الحزب التقدمي يكاد يكون فاعلاً وحيداً في تقديم المساعدات الدورية والمستمرة، ما خلا مبادرات متفرّقة لنواب. الشهر الفائت، دفع الحزب الاشتراكي ملياراً و400 مليون ليرة مساعدات استشفائية، إلى جانب إعانات غذائية ومساعدات للمحروقات ومساهمات خلايا الأزمة المنتشرة في القرى والبلدات لتأمين حاجات أهلها من الاغتراب. من الشوف إلى عاليه والمتن، المشهد واحد، منذ أزمة كورونا إلى الانهيار الاقتصادي، وما زالت البنية التحتية فاعلة وسريعة الحركة في تأمين أجهزة التنفس والأدوية والضرورات. بهذا المعيار، ليس سهلاً على أي حزب أن يكون مستنفراً «اجتماعياً» طيلة سنتين.
لكن، بقدر ما يظهر هذا الاستنفار الاجتماعي في شكل بارز، يُسجل انكفاء سياسي وانتخابي بالمعنى الذي كان رئيسه وليد جنبلاط يحدثه في الساحة السياسية. ففي خضمّ انقضاء عام وبداية سنة جديدة افتُتحت على صراع بين التيار الوطني الحر وحركة أمل، وخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وترقباً لعودة الرئيس سعد الحريري، يظهر الاشتراكي - للمرة الأولى منذ سنوات - وكأنه ليس في قلب الحدث. بخلاف عامَي 2005 و2009، دخل الاشتراكي الانتخابات عام 2018 على مضض بسبب قانون الانتخاب الذي لم يرتضه. واليوم، يرى سياسيون أن جنبلاط يتصرف وكأنه لم يعد لاعباً أولَ منفرداً، يملك التأثير نفسه الذي امتلكه في دورتَي 2005 و2009. طبيعة المرحلة اللبنانية وتقدم حزب الله المشهد منفرداً رسما معالم مختلفة، وجعلا تأثير جنبلاط السياسي والانتخابي يتراجع، بسبب تغير الظروف، وغياب الحريري، وانشغال الرئيس نبيه بري في حروب متتالية على أكثر من جبهة.
الارتياح الانتخابي المعتاد لا يقابله ارتياح إلى مستقبل البلد


هذه الاعتبارات، يقابلها أن جنبلاط يتمتع بفرادة الجبل، ويملك خاصية قد لا يمتلكها غيره من السياسيين تجعله مرة تلو مرة ضرورة، تتقدم أو تتراجع أهميتها بحسب الظروف، من دون أن تتلاشى. لكنه يقف اليوم منتظراً انقشاع الغيوم الإقليمية، فيستعد للانتخابات النيابية، ولا يقدم نفسه على أنه منشغل بها إلى الحد الذي يتصوّره البعض. هو يقدم ملفين على كل الملفات الأخرى: الهم الاجتماعي وتفعيل الحكومة. والحكومة، من هذا الباب، أُولى الضرورات، مع الاعتراف بأن رئيسها نجيب ميقاتي يتحرك ويبادر كما فعل في الآونة الأخيرة، ولا سيما في ردّه على الأمين العام لحزب الله، والوزراء يتابعون ملفاتهم روتينياً. لكنّ العبرة تبقى في الحاجات الضرورية التي تحتّم اجتماع الحكومة لأسباب معيشية واقتصادية، في ملف الاتصالات واحتمال توقّفه وارتفاع أسعاره، وتأثيراته على كل القطاعات، وفي ملف المفاوضات مع صندوق النقد، وسائر الملفات المعيشية. كل ذلك من الطوارئ الضرورية، أما الدعوات إلى الحوار ومشتقاته فليس وقتها حالياً، فيما الناس تحت عبء الجوع والمرض وفواتير المستشفيات. لأن المطلوب اتخاذ إجراءات تخفّف وطأة الانهيار الاقتصادي. لكنّ المخاوف من احتمال تمدد الأزمة الحكومية واقعية، بقدر ما هو واقعي أن الأفق يبدو مسدوداً في ظل المناكفات الأخيرة.
والواقعية تفترض الكلام عن إعادة ترتيب الساحة السياسية استعداداً للانتخابات ولا سيما في ما يتعلق بعودة الرئيس الحريري. يدفع الاشتراكي، كما الرئيس بري، في اتجاه بقاء الحريري في الساحة السياسية من باب الانتخابات. للضرورة الوطنية والسُّنية لا يمكن ترك الوضع السني من دون الحريري، والتخلي عن الاعتدال السني لمصلحة أطراف أخرى. لا يمكن للحريري أن يتخطى هذا الاعتبار مهما كانت الأسباب التي قد تدفعه إلى هذه الزاوية. لكن في انتظار اتخاذ الحريري قراره، يستكمل الاشتراكي والمستقبل اتصالاتهما انتخابياً، والمحسوم بينهما واضح، رغم أنه لا يدخل الانتخابات من الباب العريض، ولا يخوض مبكراً في الأسماء والتحالفات تفصيلاً قبل اتضاح الرؤية تماماً. فما بات أكيداً هو تكرار تجربة عام 2018، أي تحالف الاشتراكي والقوات والمستقبل. بهذا المعنى يصبح الجبل المساحة المشتركة بين قوتين لا تتفقان سياسياً في الوقت الراهن، وقد لا تلتقيان في ساحات انتخابية أخرى. وهذه المساحة تساهم في تأطير نوع من التحالف الواقعي ومن دون شعارات رنّانة، ولا عناوين تشبه مرحلة 14 آذار، ولا يمكن أن تتوافر ظروف مشابهة لها في مناطق أخرى. لا يزال الاشتراكي يحسب الانتخابات من فوق، أي من دون الدخول في تفاصيل وأسماء يسقطها نهائياً في لوائحه بين حرس قديم وجديد، ولو أن بضعة أسماء نيابية تلقائية، وبين انتظار خيارات حلفائه بانتقاء مرشّحيهم. لكنّ الثابت أن الارتياح الانتخابي المعتاد لا يقابله ارتياح إلى مستقبل البلد الذي يبدو قاتماً.