كلما مضى مزيد من الوقت على إدارة الأزمة بشكلها الحالي، كلما اتّسم مصير القطاع المصرفي بضبابية أكبر. فالتعاميم التي أصدرها مصرف لبنان لإدارة الأزمة، لا ترتقي إلى تشكيل سياسة نقدية - مصرفية، بل دفعت المصارف إلى التركيز على إطفاء الخسائر عبر خفض قيمة الليرة والتغاضي عن التحضير للمرحلة المقبلة التي تتطلب إعادة رسملة كبيرة. المصارف، كعادتها، نامت على حرير التعاميم ووعود إحياء النموذج المصرفي المنهار.بحذر، تترقّب المصارف الاستحقاق المقبل مع صندوق النقد الدولي. إذ مهما أظهر الصندوق تساهلاً تجاه تحديد الخسائر وتوزيعها، فلا شكّ في أن أي اتفاق معه يفرض وجود حلّ شامل يتضمن إعادة هيكلة القطاع المالي بشقيه: المصارف ومصرف لبنان. وبما أن الهدف من الاتفاق هو استعادة الثقة بالقطاع المالي، لذا يصبح السؤال: إلى أي مصارف ستأتي هذه الأموال؟ وبأي سياسات نقدية ستكون محكومة؟ فالمصارف «الزومبي»، حالياً، ما زالت تعيش بأدوات الماضي. صحيح أن المصرفيين يردّدون عبارات عن إعادة الهيكلة وتحديد الخسائر والـ«هيركات»، إلا أنهم لا يرسمون مساراً واضحاً لكل هذه الخطوات، وما تتطلبه من المصارف، ومفاعيلها على الأسواق.
المشهد، بحسب مدير سيدروس بنك رائد خوري، محكوم بـ«انتظار إتمام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي وتحديد الخسائر ونسب الهيركات على التوظيفات بالعملة الأجنبية في المصرف المركزي، فضلاً عن حجم الأموال التي سيعيدها للمصارف، وتحديد خسائر المودع».
كلام خوري يوحي بأن المصارف مصرّة على إبقاء كياناتها خارج عملية توزيع الخسائر. فالمصرفيون لا يقرّون بأنهم أساؤوا الائتمان، وأنهم كانوا كسالى جداً إلى درجة أنهم لم يدرسوا مخاطر توظيف الودائع في مصرف لبنان، في بلد يعاني منذ مطلع التسعينيات أزمات نظامية متتالية. وهم أيضاً لا يعترفون بأن الأرباح التي حقّقها القطاع في السنوات الماضية أتت بالاتكال على سياسة المصرف المركزي في إدارة التدفقات النقدية، والتي كانت تتطلّب تحويل المال العام والخاص إلى أرباح ورساميل مصرفية.
أولى خطوات التحضير للمرحلة المفترضة مع صندوق النقد الدولي تكمن في الاعتراف بالجرائم. خطوة كهذه، قد تتيح للمصارف النظر بجديّة إلى المستقبل والتخطيط. لكن أصحابها يراهنون على تطويع صندوق النقد الدولي. وقد تكون هذه هي الترجمة العملية لعبارة «تعيش المصارف حالياً حالة انتظار» على حدّ تعبير خوري. فالحديث عن هذه الحالة يدفعه إلى القفز مباشرة نحو الدمج المصرفي وصفقات البيع والشراء. اقتناص الفرص هو من شيم المصارف، لكن أحداً لم يبحث بعد في أي مصارف يريد لبنان، وأي مصارف تكون على قياس اقتصاده الذي تقلّص من 55 مليار دولار إلى أقل من 21 ملياراً وفق أرقام البنك الدولي، وماذا ستكون وظيفتها؟ وهل سنعيد إنتاج النموذج القائم على استقطاب الأموال من الخارج لتمويل عمليات فساد داخلية واستيراد السلع، أم سيكون لها دور في تمويل استثمارات والمشاركة في تحمّل مخاطر السوق؟
العيش في حال الانتظار يكرّر الماضي. فكما اتّكلت المصارف على مصرف لبنان في مرحلة «العزّ» لتحقيق الأرباح وتوزيعها على مساهميها أو رسملتها، تتكّل اليوم عليه أيضاً، وكذلك على نفوذها السياسي لتحقيق «مصالحها الفردية». فبحكم القرب من قوى السلطة أو بعدها عنها، تعتقد المصارف أنه سيتم تشكيل المرحلة المقبلة من حياتها. هذا العجز مماثل للعجز في إدارة أموال المودعين. فالحلّ كما يراه خوري: «ربما يكون على طريقة أن تأتي الدولة وتقول للمودع سنردّ لك جزءاً من الودائع بالعملة الأجنبية وجزءاً آخر على شكل أسهم في مرفق عام قد تحصل على مردوده بعد سنوات»... عملياً، لم تخرج المصارف من قمقم الاتّكال على المال العام. تريد حلّاً بلا مخاطر وبلا استثمارات بالأموال الطازجة. وعلى رغم أن خوري يشير إلى أن النهوض يتعلق بجذب الرساميل واستحضار الأموال الطازجة من الخارج، إلا أنه لا يقدّم نموذجاً واضحاً عن الحلّ الشامل. يكاد يتحدّث عن مصرفه فقط أو المجموعة التي ستنشأ معه.
اتكلت المصارف على مصرف لبنان في مرحلة «العزّ» لتحقيق الأرباح وتتكّل اليوم عليه وعلى نفوذها السياسي لتحقيق «مصالحها الفردية»


لا سلوك يحكم المصارف إلا هذا. السلوك المتعلق بالتجهيز للمرحلة المقبلة يكاد يقتصر على أفكار بديلة لمشروع الاستحواذ على الأملاك العامة. فمن المفارقة أن المصارف ترى نفسها خاسرة، تماماً مثل المودعين. لكنها حتى اليوم لم تدفع قرشاً واحداً لتغطية الخسائر المسجّلة في ميزانياتها. الفرق بين كلفة الدولارات المسحوبة على التعميم 151 (كان بسعر صرف 3900 ليرة وأصبح اليوم 8000 ليرة) وبين سعر صرفها في المصارف، يسدّده مصرف لبنان عبر زيادة الكتلة النقدية في السوق. وفي تطبيق التعميم 158، لا تدفع المصارف سوى 25% مما يتم ردّه للمودعين ضمن سقوف ضيّقة جداً. وبالنسبة لتغطية الخسائر المتوقعة في ميزانياتها، سواء لجهة خسائر سندات اليوروبوندز أو خسائر إقراض القطاع الخاص، أو حتى خسائر التوظيفات لدى مصرف لبنان، فجميعها تُغطّى من الإيرادات المتواصلة التي تسدّدها الدولة من الفوائد المدفوعة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. بهذه الليرات اشترت المصارف دولارات بنكية من مصرف لبنان ومن المودعين، وخصّصتها كمؤونات لمواجهة الخسائر.
وبحسب النقيبة السابقة لخبراء المحاسبة جينا الشمّاس، لا تزال المصارف تحقق إيرادات ولديها موجودات ثمينة وعقارات، ولم تستغن عن أي من أصولها في سبيل إعادة أموال المودعين. لذلك، تستغرب أن تطالب المصارف بصندوق سيادي تريد من خلاله أن تضع يدها على أملاك الدولة.
لكن ليست هذه المقاربة الوحيدة لانعدام جاهزية القطاع المصرفي، إذ إن سلوكه الاتكالي على مصرف لبنان يأتي بأشكال مختلفة. المحامي المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية، باسكال ضاهر، يشير إلى أن مصرف لبنان، شرّع «الهيركات» من خلال التعميمين 151 و158. ومن خلالهما «مارس اقتطاعات من حساب المودع لإطفاء دين المصارف». في السياق نفسه، تشير شمّاس إلى أن «المصارف مطمئنة للعمل الذي يقوم به حاكم مصرف لبنان، أي أن يضمن لبعضهم عدم الخسارة والاستيلاء على الأملاك العامة». ولهذا السبب، «تظهر بعض المؤشرات المتناقضة في السوق. ففيما تنهار الليرة وسط إفلاس مصرفي واسع، يرتفع سعر سهم «بلوم بنك» على سبيل المثال».
في السنتين الماضيتين، شهدنا الآتي: ارتفاع في سعر الدولار مقابل الليرة بنحو 19 ضعفاً، تضخّم في الأسعار يتجاوز 700%، فقر متعدّد الأبعاد يشمل 80% من السكان، بطالة كبيرة، موجة هجرة لم يشهد لبنان مثيلاً لها. هذه هي نتائج التعاميم التي أصدرها مصرف لبنان. أما التعميم المتعلق بزيادة رؤوس أموال المصارف والطلب منها زيادة سيولتها الخارجية، فقد جاءا في خدمة المصارف وحدها، ولم يخصّص لأهداف النهوض وإعادة الهيكلة.
من الواضح، أن خطّة إعادة الهيكلة هي الخطّة البديلة للمصارف ومصرف لبنان بدلاً من خطّة النهوض. وهي تتضمن تجنيب المصارف حصّتها الشرعية من توزيع الخسائر، وإجبار المودع على تقبل خسارته من دون أن يعترف مصرف لبنان بأن هناك «هيركات». في المحصلة، ليس هناك سوى خطّة واحدة: سياسة التجويع.