شهد العام المنتهي مئتين وخمسين يوماً من المحاولات الفاشلة لتشكيل حكومة تعوّض خسارة حكومة البروفيسور حسان دياب المستقيلة إبّان انفجار مرفأ بيروت صيف عام 2020. جلّ المحاولات الفاشلة هذه كانت من نصيب الأخ الأصغر لزعيم حركة «سوا للبنان إنترناشونال» الثورية، والذي حرد بعدها وكفر بالسياسة اللبنانية التي لولاها لما سمعنا به.لذلك، لا بد من الإشادة بالإنجاز الأول لرئيس الحكومة الحالية نجيب ميقاتي، وهو تمكّنه من تشكيل حكومة... ونقطة على السطر. هناك جشعون يريدون لحكومتهم أن تكون متكاملة ومتماسكة ومتراصّة ومتناغمة، خاصة نظراً إلى الوضع الذي تمرّ فيه البلاد والاستحقاقات الكبرى المتوجبة على السلطة التنفيذية في المرحلة المقبلة، ونقول لهؤلاء الجشعين: ألا تعرفون أن القناعة كنز لا يفنى؟ يعزو البعض فشل الرئيس السابق والرئيس المكلّف السابق في تشكيل الحكومة إلى إشكال على أسماء بعض الوزراء، فاستدرك الرئيس الحالي وحكومته ذلك وتأكّدوا من ألا نتعرّف إلى أسماء معظم الوزراء، فاختاروا العمل في الخفاء من دون عناء الاجتماع حتّى. أصلاً، كل من عمل في شركة أو مؤسسة أو حتى تنظيم سياسي يعرف جيّداً أن معظم الاجتماعات مضيعة للوقت، وأن العمل الجدي يجري خارج قاعة الاجتماع. فسجّلوا إنجازاً آخر للحكومة، وهو القضاء على مضيعة الوقت، وهكذا أثبت الميقاتي أنه اسمٌ على مسمّى.
لكن ما سبق هو القليل من كثيرٍ. فكما قلنا، هذه الحكومة تحبّ العمل بعيداً عن الأضواء. ذلك رغم أن على رأس أجندتها بند شعشعة النور في البلد بنفط عراقي وغاز مصري ومحوّلات أردنية وشبكة سورية وبركة قيصرية أميركية منتظرة، وما هي إلا أيام أو أسابيع أو أشهر قليلة حتى تصل ساعات التغذية الكهربائية إلى ثمان أو عشر في الأربع والعشرين ساعة، كما يبشّرنا وزير الطاقة وليد فياض بين حين وآخر. تعرفة هذه الساعات ستقلّ عن كلفة اشتراكات المولّدات، لكن ستخرج أصوات لتقول إنها تفوق الحد الأدنى للأجور للتقليل من الإنجاز، أيفضّل هؤلاء تكّة الساعات؟ كما تتجاهل الأصوات «النقّاقة» الفائدة البيئية لاستجرار الكهرباء من الخارج، ويمكنكم سؤال وزير البيئة عن هذه الفائدة، فهو الاستثناء الحكومي الذي يحبّذ أن تتعقّب أضواء الكاميرات كل خطوة يخطوها. طبعاً يمكننا أن ننظر إلى تقبّل ناصر ياسين الدائم لأعين السلطة الرابعة على أنه إنجاز نوعي في الشفافية في العمل الوزاري.
دليل آخر على تواضع هذه الحكومة وعدم حب الظهور فيها، هو أنها قرّرت التخلص من الوزارة المتخصّصة بالتباهي بإنجازات الحكومة. خلال عمل الحكومات السابقة، كان يخرج لنا بعد كل اجتماع تعقده الحكومة وزير أو وزيرة للإعلام ليتلو أو تتلو علينا فرماناً مليئاً بالسلطوية الأبوية. حكومة الميقاتي تخلّصت من هذا الموروث العثماني كرمى لعيون الأم الحنون، أليس ذلك إنجازاً في التقدّمية؟ يقول المشككون إن الحكومة قامت بخطوتها طمعاً بمليون ريال من هنا أو بضعة دراهم من هناك، لكنّ الأيام أثبتت أن أقصى ما تطمح له الحكومة خليجياً هو حضن دافئ، وهي لم ولن ترى المليون.
الأولوية الثانية المعلنة، إلى جانب الكهرباء، في عمل هذه الحكومة، هي الانتخابات النيابية. ولسنا مضطرين أن ننتظر الخامس عشر من أيار لنعترف لبسام المولوي بقدرته على تعقّب الصناديق والتأكد من محتواها. فالشعب متيقّن، بعد مشاهدة أدائه في أيامه القليلة في وزارته، بأن الاحتلال الإيراني حتماً لن يتسلّل من صناديق الاقتراع، وهذا إنجاز سياديّ يسجل لوزارة الداخلية والبلديات في مرمى الكارهين.
تُتَّهم الحكومة بأنها لا تجتمع ولا تعمل، وليتها كذلك. حكومة الانتخابات المؤقتة هي أشبه بالقنبلة الموقوتة، أو بحكومة حرب كما ورد على لسان رئيسها الذي قال إن حاكم مصرف لبنان هو أحد ضباطه الذين لا يمكن تغييرهم خلال الحرب. لم يحدّد رئيس الحكومة من هو العدو في هذه الحرب، لكن إذا كان رياض سلامة أحد الضباط فلا بد للعدو أن يكون في الضفة المقابلة. من إنجازات الحكومة أنها عملياً، ومن خلال فعل اللافعل الذي تمارسه، أطلقت العنان لإصلاحات الماريشال رياض سلامة. الودائع المصرفية تخضع لمزاجيته ومطبعة الليرة بألف خير، لا تنقطع كهرباؤها ولا يجفّ حبرها ولا حتّى تنحشر أوراقها في الماكينة. رفع الدعم عن المحروقات تمّ، وسيلحقه ما تبقّى من دعم في الخدمات الأساسية، هذا ولم ندخل بعد في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي. يفترض أن الأخير هو العدو المتطلِّب الذي يجب أن نفاوضه على شروط أفضل للنهوض باقتصادنا في وجه الدائنين وصناديقهم الانتهازية والذين ينتظرون نهش ما تبقّى من جيف الدولة اللبنانية. لكن هذا الموقف أيضاً إنجاز قد يكون غير مسبوق، فهل سبق أن وقفت حكومة دولة مفلسة في وجه مؤسسات النهب الدولية المتمرّسة وقالت لها قفي جانباً، فأنتِ لا تنهبين الشعب كفايةً.
في العرف المنتشر في الديمقراطيات التي تشهد تداولاً للسلطة، يُحْكَم على من يَحْكُم بعد مرور مئة يوم على توليه السلطة. حكومة نجيب ميقاتي الثالثة أتمت يومها الثاني عشر بعد المئة. في الظاهر هي حكومة تمرير وقت إلى حين إجراء الانتخابات مع بعض السمسرات الضرورية لتفادي الانهيار الشامل سيّما في قطاع الكهرباء، وهي تفشل حتى في ذلك. في الخباء إنها حكومة الحرب على الشعب.
خلناها حكومة طول بلا غلّة وإذ بها حكومة الإصبع الوسطى. كل عام وأنتم بخير.