مشكلة حزب الله مع حلفائه، كلّ حلفائه، أن قوّتهم المحلية يستمدّونها من قوته، وأن قوته هذه مستمدّة من دوره الاستراتيجي وتأثيره الإقليمي. رغم ذلك، يأخذون عليه انشغاله بالإقليمي عن المحلي. شيء يشبه ربّ العائلة الذي يعمل في الخارج لتوفير متطلّبات أولاده، فيما هم يريدونه أن يترك «الشغل» لحلّ مناكفاتهم اليومية. يريدون من الحزب التعامل مع «المحور» الذي ينتمي إليه بـ«القطعة»، كما في يوميات السياسة اللبنانية، فيما المحور كله «قطعة» واحدة، ما يوجب على من ينتمي إليه أن يكون حيث يجب أن يكون، سواء في سوريا أو في اليمن أو في أي مكان آخر.مشكلة حزب الله، أيضاً، مع حلفائه جميعاً، أنه الوحيد بين كل اللاعبين المحليين الذي يتخطّى دوره وتأثيره ما بعد بعد الحدود اللبنانية. هم «مياومون» غارقون في تفاصيل اللعبة المحلية، وهو لاعب استراتيجي وصاحب حسابات طويلة المدى. لا هم قادرون على مجاراته في الاستراتيجيا، ولا هو «فاضي» لمتابعة «تكتيكاتهم» المحلية. لا يتورع الحلفاء عن «القواص» على بعضهم البعض، حتى ولو تلقّى من يسندهم جميعاً النصيب الأكبر من الطلقات. لا يهتم نبيه بري كثيراً بـ«بكرا» عندما يخسر الحلف الذي ينتمي إليه الغالبية النيابية إذا كان الثمن كسر ميشال عون وجبران باسيل. وما يشكو منه الأخير من بري، هو ما يقوم به بالضبط: لا يشغله «بكرا» عن «حلم» إدانة برّي بالفساد، ولو بقي يوم واحد من عهد ميشال عون.

(هيثم الموسوي)

و«بكرا» هذا هو الصفحة الجديدة التي ينبغي أن تُفتح ما بعد الانتخابات النيابية وما قبل الانتخابات الرئاسية، عندما سيدرك حلفاء الحليف جسامة ما انتهت إليه مناكفاتهم، وصعوبة، ربما، أن يكرّر الحزب الدور الذي لعبه عشية انتخاب عون رئيساً للجمهورية لإيصال حليف آخر إلى بعبدا، أياً يكن اسم هذا الحليف: جبران باسيل أو سليمان فرنجية.
وضع تفاهم مار مخايل، عشية بلوغه سنته السادسة عشرة، «مش منيح». هذه هي الحقيقة بعيداً من كل كلام يقال علناً بأنه بـ«ألف خير». يقرّ حزب الله بأن التفاهم وفّر للمقاومة غطاء كبيراً وللبلد استقراراً سياسياً على مدى خمسة عشر عاماً. ويقرّ، أيضاً، بأن ما قدّمه عون وباسيل، في القضايا الاستراتيجية، «عظيم جداً». هذا كله صحيح. لكن «المياومة» السياسية أدّت، في ما أدّت إليه، إلى تبلور «تيار» داخل التيار، لا يني يكبر، ومفاده أن صلاحية التفاهم انتهت، وأن «هؤلاء لا يشبهوننا»، و«كيف يمكن أن يكون المسيحيون في حلف مع محور معاد للولايات المتحدة، ويخوض صراعات من سوريا إلى اليمن؟». باختصار، في رأي أصحاب هذا الرأي، التفاهم أدّى ما عليه في ظرف سياسي معيّن. ساهم في إيصال الجنرال إلى قصر بعبدا، وفي تحوّل باسيل إلى رقم صعب في اللعبة، وفي توفير غطاء مسيحي للمقاومة. لكن، ما كان صالحاً قبل 15 عاماً لم يعد صالحاً اليوم... وحان وقت المغادرة.
في المقابل، يدرك التيار، ولنسمّه «تيار جبران»، أن الأمور ليست على هذا النحو. دولياً، العونيون تحت الحصار. محلياً، لا حليف تبقّى لهم سوى حزب الله. لكن الأمور لا تنتهي هنا. أصحاب الرأي الأول يريدون طلاقاً و«ما بدّن الحزب». أصحاب الرأي الثاني متمسّكون بالارتباط و«بدّن الحزب... متل ما هنّي بدّن»... مع كثير من اللوم والاتهامات: تحمون نبيه بري، لم تساعدونا في مكافحة الفساد وبناء المؤسسات، تمسّكتم بسعد الحريري عندما تخلّى عنه الجميع... وغير ذلك الكثير.
مشكلة الحزب مع حلفائه أنهم غير قادرين على مجاراته في الاستراتيجيا ولا هو قادر على مجاراة «تكتيكاتهم» المحلية


بكثير من الحرص يتلقّف حزب الله غضب التيار، ويتفهّم المأزق الذي هو فيه وكل هواجسه. أساساً، التعديلات على قانون الانتخاب وسقوط الطعن فيها في المجلس الدستوري كانا، بالنسبة للحزب، أشد إيلاماً ربما مما شعر به التيار وأهله. في دائرة الشمال الثالثة، التهديد كبير للحليف باسيل، وليس أقل منه للحليف الآخر طوني فرنجية. هل من عاقل يمكن أن يصدّق بأن حزباً، أي حزب، يكون فرحاً باحتمال إطاحة حليفين له بـ«ضربة» واحدة؟ التيار الذي حمّل رئيسه حزب الله مسؤولية إسقاط الطعن يدرك تماماً أن لا «مَونة» للحزب على أي من العضوين الشيعيين في المجلس الدستوري. أساساً، نبيه بري هو من سمّى أحدهما، ونبيه بري هو من اقترح اسم الآخر! ويعرف باسيل تماماً، أيضاً، أن حزب الله كان يعمل منذ شهر على التوسّط للوصول إلى تسوية، وأن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هو من أسقطها. وهنا، يؤخذ على باسيل أنه لم يذهب يوماً إلى المفاوضات إلا مضطراً. فهو كان مطمئناً إلى مرور الطعن في المجلس الدستوري، إلى ما قبل أربعة أيام من انتهاء المهلة القانونية، عندما أبلغ القاضي طنوس مشلب رئيس الجمهورية أن قبول الطعن يحتاج إلى صوت شيعي. لم تكن الأيام القليلة قبل انتهاء المهلة كافية لإدخال الفيل إلى الغرفة وإنجاز الصفقة وإقناع ميقاتي بها (هذا لو كان قادراً على ابتلاعها)... فسقطت وبات برّي في حلّ مما لم يكن يحبّ أساساً أن يلتزم به لولا مساعي الحزب.
رغم «الكلام الكبير» الذي قيل، بعد سقوط الطعن، الهدف واضح ومحدّد لدى حزب الله: الحرص على جبران باسيل ودعمه في الانتخابات النيابية إلى الـ«ماكسيموم». ولكن، المطلوب من التيار، أيضاً، نقد ذاتي للسنوات الخمس الماضية بدل الاستمرار في تحميل الحليف القوي مسؤولية كل انسداد تصل إليه الأمور. مفهوم تماماً الشعور بأن إعادة استنهاض التيار في الشارع المسيحي لن تتم إلا من خلال رئاسة الجمهورية، لا من خلال العمل النيابي والحزبي. لكن كيف يمكن ذلك فيما التيار على عداء مع الجميع تقريباً.
عشية انتخاب عون للرئاسة لم يكن حزب الله وحيداً: كان معه سليمان فرنجية رغم أنه كان مرشحاً، ولو لم يكن نبيه بري معه لما سارت الأمور إلى ما انتهت إليه. اليوم، بعد الأبلسة التي تعرّض لها باسيل منذ دخوله النادي السياسي، وخصوصاً منذ 17 تشرين الأول 2019، لا يزال الحزب يقف معه وإلى جانبه ثابتاً ومتفهّماً... ولكن وحيداً.



التسوية التي لم تخرج إلى النور
عمِل حزب الله منذ أكثر من شهر على التوسط بين الرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، وجهِد في البحث عن حل لقضية المحقق العدلي في جريمة انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار. من بين الحلول التي طرحت ما أطلق عليه «المقايضة» أو «التسوية» التي قامت على «تنازلات متبادلة». وقامت على إعطاء باسيل ما يريده في المجلس الدستوري لجهة الإقرار بالطعون التي تقدّم بها في قانون الانتخاب لا سيما في ما يتعلق باقتراع المغتربين، على أن يضمن التيار الوطني الحر، في المقابل، تأمين النصاب لجلسة نيابية تقرّ فصل محاكمة الرؤساء والوزراء عن التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، وإسقاط رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود والمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم. اصطدم الأمر برفض بري المس بالقاضي إبراهيم، ورفض ميقاتي تغيير عبّود وعويدات لتتوقف الاتصالات والوساطات، قبل أن تعود بزخم قبل أيام قليلة من انتهاء المهلة القانونية للمجلس الدستوري لإصدار قراره في شأن الطعن. أُدخلت على التسوية تعديلات قضت بأن تتولى الحكومة اتخاذ قرار التغييرات في المواقع القضائية، خصوصاً أن باسيل رفض بشدة خيار مجلس النواب لأنه غير قادر على تحمّله. إذ اشترط بري عليه، بداية، أن يصوّت تكتله على تأليف لجنة محاسبة وتفعيل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وليس تأمين نصاب الجلسة فحسب، خصوصاً بعد رفض الرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط التصويت. رفض باسيل الأمر عارضاً تأمين النصاب وأصوات نواب الطاشناق والنائب طلال أرسلان، وهو ما اعتبره رئيس المجلس «تحصيل حاصل».
بعد اقتراح قيام الحكومة باتخاذ القرار، طلب بري من الرئيس نجيب ميقاتي أن يزوره ليعرض عليه التسوية، فرفضها أولاً بحجة أنه لم يكن في جو الاتصالات وليس في وارد الدعوة إلى جلسة للحكومة تبصم على اتفاق لم يكن له دور فيه، مع ما لذلك من انعكاسات على الشارع السني، وثانياً لأن الأمر سيزعج الفرنسيين والأميركيين والمجتمع الدولي المؤيد للبيطار. غادر ميقاتي عين التينة غاضباً، فأرسل إليه بري موفداً لإقناعه، قبل أن يزوره «الخليلان» ليلاً، إلا أنه تمسّك بالرفض. وخلال اللقاء، اتصل ميقاتي برئيس مجلس القضاء الأعلى طالباً منه البحث عن مخرج قضائي، فردّ عبود بنبرة استعلائية، وبما معناه: «ما بيقدرو يعملو شي وإذا فيهن يشيلوني ما يقصّرو». سُدّت الطرق أمام التسوية، فلم يبق إلا محاولة التواصل مع باسيل مجدداً، صبيحة إصدار المجلس الدستوري «لإقراره»، في محاولة لإقناعه بالعودة إلى خيار التصويت في مجلس النواب على تفعيل عمل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، فرفض، وهو ما أشار إليه في مؤتمره الصحافي، في ذلك اليوم، عن عرض قدّم إليه.
(الأخبار)