فتح المجلس الاقتصادي الاجتماعي، من جديد، النقاش حول قضايا البيئة بسبب التصاقها الشديد بالشأن الاقتصادي والصحي… والوجودي. وتناولت الورشة التي نظّمها المجلس، نهاية الأسبوع الماضي، كثيراً من القضايا الحيوية كملف إدارة النفايات وحماية الأحراج وتغيّر المناخ وتلوّث الهواء. كل ذلك تحت عنوان رئيسي عكسه وزير البيئة ناصر ياسين في طرحه للنقاش، التفكير في الانتقال إلى الاقتصاد الدائري، كمفهوم منقذ في مرحلة ما بعد الانهيار الشامل. في موضوع النفايات كان التوجه نحو اعتماد اللامركزية في مقاربة مسألة إدارة النفايات، إضافة إلى التجزئة والفصل بين الأنواع في المعالجة والفرز وإعادة التقييم والتدوير، خصوصاً بعد ارتفاع أسعار المواد القابلة لإعادة التصنيع (وصل سعر طن نفايات البلاستيك، مثلاً، إلى 300 دولار)، مع الخروج بشبه توصية لإعادة النظر في ما كان مُدرجاً في برنامج «سيدر»، لناحية استدانة مليارات الدولارات من أجل إنشاء محارق وتشغيلها بكلفة لا تقل عن مئة دولار للطن، ما يعزز - بل يفرض - العودة إلى الاقتصاد الدائري.
وفي قطاع النقل، أظهرت أزمة ارتفاع أسعار المحروقات الحاجة إلى إعادة النظر جذرياً في أولويات سياسات قطاع النقل لناحية التخفيف من الاعتماد على السيارات الخاصة ودعم النقل العام. كما جرى التركيز على الجدوى الاقتصادية والبيئية من حسن إدارة الغابات والمحميات. وكانت لافتة إشارة مدير محمية أرز الشوف نزار هاني، بناءً على دراسة قيمة الخدمات الإيكولوجية التي توفرها المحميات (مساحة المناطق المحمية في لبنان لا تتجاوز 3% من مساحته)، إلى أن كل دولار يُصرف على مشاريع المحميات يوفر 19 دولاراً. فيما أعلن وزير البيئة أنه في صدد التحضير لإعلان مزيد من المناطق المحمية قريباً، مع التأكيد أن ما يهدد تراجع المساحات الخضراء في لبنان، بالدرجة الأولى، وأكثر من الحرائق والقطع والرعي، هو تغيير وجهة استخدام الأراضي وما يُسمى النشاط العمراني والحضري (بلغ حجم الأراضي المشوّهة بسبب قطاع المقالع والمرامل والكسارات 61 مليون متر مربع أو ما يقارب 6400 هكتار).
كما كان لافتاً إدراج قضية تغيّر المناخ من ضمن القضايا ذات الأولوية على المستوى الاقتصادي، إذ يمكن للكوارث المناخية، في لبنان والعالم، أن تطيح بكل مكتسبات التنمية. فكيف الحال في بلد دمّره الفساد ومشاريع الاستثمار التنفيعية للشركات والمحاسيب؟ وأكّدت المداخلات حول تغير المناخ أن تعهد لبنان بخفض الانبعاثات بنسبة 20% بحلول عام 2030 وإنتاج 30% من الطاقة من مصادر متجددة بحلول العام نفسه، يمكن أن تكون له عائدات مهمة على الاقتصاد اللبناني، إذ إن كل دولار يُصرف على مشاريع تغير المناخ تبلغ عائداته 3,2 دولارات على الاقتصاد، بحسب منسّقة الصندوق الأخضر للمناخ في وزارة البيئة يارا ضو.
لكنّ مفهوم الاقتصاد الدائري لا ينطبق على بعض المشاريع حتى لو تم تدوير نفاياتها السائلة ومعالجتها وإعادة استخدامها، كما في تربية الدواجن في مزارع كبيرة، على سبيل المثال. فهذا القطاع ينتج، بحسب الخبراء، ما يقارب مئة ألف طن من مخلّفات الدجاج (الزبل) التي تحتاج إلى معالجة وتعقيم قبل إعادة استخدامها في الزراعة. كما ينتج 50 ألف طن من نفايات المسالخ (ريش وعظام ودماء) تحتاج إلى معالجة غير تلك التي تحولها إلى أعلاف حيوانية، وينتح 2,5 مليار ليتر من المياه المبتذلة التي تحتاج إلى معالجة مكلفة لا تقل عن دولار لكل متر مكعب.
لذلك، فإن تقييم الاقتصاد البيئي والدائري يفترض أن يعود إلى قياس مدى التوفير في ما لو تم، مثلاً، استبدال إزالة الغابات لإنتاج الأعلاف والحبوب وتربية الحيوانات، بأن تذهب الحبوب إلى الاستهلاك البشري مباشرة ومدى التوفير في الأراضي والمياه والاقتصاد الكلي، بالإضافة إلى التوفير على المناخ (من خلال التوفير في إنتاج غاز الميتان الأقوى بـ32 مرة من غاز ثاني أوكسيد الكربون) وعلى الصحة العامة (مع ما تسببه زيادة استهلاك اللحوم من زيادة الدهون وانسداد الشرايين وزيادة الوفيات).
يفهم البعض الاقتصاد الدائري بشكل انتقائي عندما يعتبر أن وظيفته تختصر بتقليل الانبعاثات من جهة والنفايات من جهة أخرى. إلا أنه، في معناه الأصلي والعميق، يفترض أن يشمل التقليل من استخدام المواد الأولية وتقليل الاستهلاك. لذا، لم يعد كافياً الحديث عن اقتصاد الكربون والتقليل من الانبعاثات (صفر انبعاثات)، بل يجب أن يتوسع المفهوم ليشمل التقليل من استنزاف الموارد واستهلاكها وحفظ حقوق الأجيال المقبلة فيها أيضاً. فكيف نسمح لأنفسنا باستخراج الوقود الأحفوري المصنّف مورداً غير متجدد والذي استغرق تشكّله ملايين السنين لنستهلكه في 100 عام؟ والأمر نفسه ينسحب على التقنية البديلة وما يسمى «التكنولوجيا الخضراء» التي تعتمد في صناعتها على أتربة نادرة وغير متجدّدة.
الاقتصاد الدائري، كالاقتصاد القديم تماماً، يمنح القيمة الحقيقية لكل شيء ويدرس دورة حياة كل منتج لتحديد تلك القيمة. والمبالغات الكثيرة عند الحديث عن تأمين الاقتصاد الدائري لوظائف جديدة، لا تأخذ في الحسبان عادة عدد من سيخسرون وظائفهم أيضاً. إلا أن ما يعوض عن الوظائف، أن نظرية قلة الاستهلاك، تعني قلة العمل أيضاً، ما يعني خفض ساعات العمل، وتوفير ساعات لآخرين.
تذكر نقاشات المجلس الاقتصادي الاجتماعي بتلك التي بدأت منذ عام 2000، تاريخ تأسيسه، عندما اقتُرح أن تشمل تسميته «البيئي» أيضاً، نظراً إلى ما لقضايا البيئة من علاقة عضوية بالاقتصاد، على قاعدة أننا لا نستطيع أن نؤسس قواعد اقتصادية إلا بناءً على دراسة القواعد الإيكولوجية. أي أن تتأسس النظم الاقتصادية بحسب قدرات الموارد على التجدد، وبالتماهي مع الأنظمة الإيكولوجية، لكي تحافظ هذه الأخيرة على استدامتها ولحفظ حقوق الأجيال القادمة في الاستفادة منها، ضمن قواعد العدالة البيئية التي لم يتم احترامها يوماً. وهذا ما يفسر كل الكوارث التي نقع فيها اليوم، والتي تأسّست عندما بدأ علم الاقتصاد بتجاوز أو تجاهل علم البيئة.