لغاية الآن، هناك تركيز هائل على حملة الدولار، خصوصاً ودائع الدولار، في معرض النقاش الدائر حول خسائر القطاع المصرفي. الكل يتجنّب الحديث عن الخسائر التي أصابت حملة الليرة اللبنانية - المدخرات/ الودائع والمداخيل بالليرة اللبنانية. أصحاب هذه الودائع هم الذين لا نفوذ لهم داخل بنية النظام، لذا لم تكن لديهم القدرة على تحويل ودائعهم من الليرة إلى الدولار، بينما أصحاب المداخيل بالليرة هم شريحة من فئتين: فئة لديها نفوذ ما داخل النظام كعدد كبير من موظفي القطاع العام ممن فقدوا امتيازاتهم لحظة الانهيار، وفئة الفقراء الذين لا نفوذ لهم بالمطلق. لكن الفئتين تتشاركان في تعلّقهما بـ«الزعيم». إذ إن أفراد هذه الفئات سلّموا أمرهم لزعمائهم بالكامل بلا قيد أو شرط. عملياً، هذه الفئات هي التي أصيبت أكثر من غيرها من تدهور القدرة الشرائية، وهي التي انزلقت إلى ما دون خطّ الفقر وباتت تعاني من الفقر المتعدّد الأبعاد وتسعى للهجرة.إذاً، ما الذي أصاب الشريحتين؟ عملياً، يمكن احتساب الخسارة اللاحقة بهاتين الشريحتين من خلال استخدام تضخّم الأسعار وفق المؤشّر الصادر عن إدارة الإحصاء المركزي، والذي يشير إلى أن الأسعار تضخّمت بشكل تراكمي منذ مطلع 2019 ولغاية نهاية تشرين الثاني 2021 بنسبة 637%. ومن ضمنه تضخّمت أسعار الغذاء التي تمثّل نحو 20.6% من المؤشّر، بنسبة 2326%، وزادت أسعار الألبسة والأحذية التي تمثّل 5.4% من المؤشّر بنسبة 2379%. أما أسعار الأثاث والتجهيزات المنزلية التي تمثّل 3.7% من ميزانيات الأسر، فارتفعت بنسبة 2626%، وزادت أسعار الماء والغاز والكهرباء والمحروقات التي تمثّل 11.9% من ميزانية الأسرة بنسبة 397%... المؤشّرات كلّها تضخمت، ليصبح معدّلها التراكمي في الفترة المذكورة ازدياداً في الأسعار بنسبة 637%.
بمعنى آخر، انخفضت قيمة ودائع الليرة البالغة 38792 مليار ليرة لتصبح قيمتها الشرائية الفعلية 5263 مليار ليرة، فيما أصيب الدخل الوسطي المصرّح عنه للضمان الاجتماعي والبالغ 1.88 مليون ليرة، لتصبح قيمته الشرائية الفعلية 244 ألف ليرة.
رغم هذه الخسارة الفادحة التي لحقت بالشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة، إلا أن التركيز ينصبّ على المودعين بالعملات الأجنبية وحقوقهم. لا أحد ينتبّه إلى أن المصارف توقفت عن تحويل الودائع من العملة المحلية إلى الدولار الأميركي أو أي عملة أجنبية أخرى، بالتالي فإن خسارة هذه الفئات هي بالمطلق أكبر من أي خسائر أخرى. والأنكى من ذلك، فإن كلام رئيس الحكومة ونائبه والتلميحات التي أطلقاها بشأن التعامل مع الودائع التي تم تحويلها من الليرة إلى الدولار بعد 17 تشرين الأول 2019 باعتبارها ودائع غير دولارية أصلاً وأنها لن تدفع بالدولار، هو تمييز بحقوق الناس في اقتصاد كان يسمّى اقتصاداً حرّاً ليبرالياً. فهل يمنع القانون أي مودع أن يحمي وديعته من تدهور قوّتها الشرائية وتحويلها إلى الدولار؟ أليس بين هؤلاء المودعين متقاعدون حصلوا على تعويضاتهم من الدولة اللبنانية أو من القطاع الخاص وأودعوها لدى المصارف لتتآكل قيمتها حالياً، فما هو التعويض الذي يجب منحه لهؤلاء؟ أم أنهم مواطنون من درجات أدنى؟ لكن حتى هذه الفئات ستحصل على تعويض ما مقابل الخسارة اللاحقة بقوّتها الشرائية، فيما لن يحصل المودعون بالليرة على أي تعويض. وسائر المتعاملين بالليرة اللبنانية أيضاً، أي أصحاب المداخيل بالليرة، لن يحصلوا على أي تعويض مقابل ثلاث سنوات من الخسائر المتواصلة والمتراكمة.
السلطة أو المعنيون بخطّة التعافي، سواء من تلقاء أنفسهم أو بالتعاون مع خبراء صندوق النقد الدولي، لم يضعوا أي معايير لحماية المودعين وأصحاب المداخيل. تصنيف المودعين وفق الأكبر والأصغر هو تصنيف معاد لحقوق الناس التي راكمت مدّخراتها بقوّة عملها، تماماً كما تعادي أصحاب المداخيل بالليرة الذين لا أحد يدرس منحهم أي تعويض مهما كان صغيراً. المعيار الوحيد الواضح من طريقة تعامل السلطة مع الشرائح الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، هو معيار يتعلق بحملة الدولار. الحماية الوحيدة التي تُدرس هي لهؤلاء على حساب الآخرين. يجري تمييز حملة الدولار باعتبارهم أصحاب أفضلية على غيرهم، بينما الواقع أن هناك فئات اجتماعية تلقت ضربات أقوى بكثير. لكن قوى النظام الحاكم تعاقب أبناءها الذين آمنوا بها وتعلّقوا بها. النظام يأكل أبناءه.