(1) مناعة شعبية ضد التطبيعاختتمت قطر والفيفا، السبت الماضي، دورة كرة قدم تجريبية لاختبار جاهزية آل ثاني لاستضافة الحدث الرياضي الأهم في العالم العام المقبل. لا شك في أن الملاعب التي أنفق عليها الملايين من الدولارات، وأزهقت حيوات آلاف العمال من أجل بنائها، قادرة على استضافة مباريات كرة قدم. ملعب «أبو عضل» استضاف الكثير من المباريات الحماسية وخرّج عشرات من نجوم كرة القدم في لبنان، ولم تكن فيه عشبة واحدة. هذا جمال كرة القدم التي لا تحتاج لكل هذه المسرحة لتجذب المحبين. لكن مشكلتها هي أنها تجذب ملايين المحبين، بالتالي لا بد أن يلحق بهم طفيليّو الاستغلال الرأسمالي الذين لا يرون في الملعب إلا حسابات الربح المادي. ولطالما وُجد من يرى في امتلاك نوادي كرة القدم مسلكاً لكسب ودّ جماهيرها، ونجد في بيروت مثالاً في رئيس حكومة راحل استحوذ، إلى جانب سطوته على وسطها التجاري، على أكبر ناديين في المدينة، بطرقه الملتوية دوماً، ليكرّس نفسه زعيماً عليها. قطر من جهتها لم تكتفِ بنوادٍ أوروبية عريقة، بل رأت في المونديال، بعد إمبراطوريتها الإعلامية وشرائها تنظيم الإخوان واستضافتها عديد عسكر الإمبراطورية في العُديد، مدخلاً آخر لشراء الشرعية بين الأمم.
قطر، كما أخواتها المطبّعات المطلات على الخليج العربي، في نهاية المطاف كيان استعماري، ومصالح هكذا كيانات تتشابه، وليس مستغرباً أن تقف مع بعضها البعض. لكن، أيضاً، ليس مستغرباً أن تكون الشعوب في غير صوب. وعلى رغم أن الجزائر لم تنفق ريالاً على حملات الدعاية وشراء أثير المحطات وحبر الصحف، غير أنها فازت بكأس العرب حتى قبل نزول منتخبها إلى أرض الملعب المونديالي. لماذا يا ترى؟ وباء التطبيع مع «إسرائيل» لن يصيب الشعوب مهما نشرته الأنظمة، فها هي مصر شاهدة على ذلك. لكن بما أن قطر عرين العروبة المُراد، ذكّرنا المعلّقون مرّات عدة بأن نهائي كأس العرب كما نهائي المونديال القادم يصادف في «اليوم العالمي للّغة العربية».
فاشهدوا... فاشهدوا... فاشهدوا...

(2) من مختبراتها إلى «آباطِها»
لا بد من شكر سفيرة الولايات المتحدة في عوكر وشمالها على عزوفها عن نشر فيديو على منابر التواصل تحتفل فيه باليوم العالمي للّغة العربية، على عكس أقرانها في السلك الدبلوماسي الغربي (وقنصل شرقي سمج ينافسهم في محاولتهم اليائسة ليكونوا ظرفاء). لكنها ظهرت في اليوم التالي لتمنّن اللبنانيين بشحنة من لقاحات ضد وباء كورونا إصدار عام 2019. لن ندخل في تفاصيل الشحنة وماركة اللقاح الذي يقال إنه من ماركة شامبو الأطفال الشهيرة، وقد أوصى مركز مكافحة الأمراض في الولايات المتحدة بتجنبه لمن استطاع إلى اللقاحين الأميركيين الآخرين سبيلاً. لكن ما أظهره وباء كورونا في العامين الماضيين بوضوح هو حقارة وعنصرية قوى الاستعمار بغضّ النظر عن كرمها الطارئ. أشرف الوباء على الانكفاء، وإن كانت دعاية شركات الأدوية العالمية تبشّر بمتحورات قد تستنفد الأبجدية الإغريقية.
هنا أيضاً يظهر شرخ بين الأنظمة والشعوب. في حين أن 3 في المئة فقط من سكان الدول الفقيرة كانوا قد حصلوا على جرعة لقاح في نهاية تشرين الأول الفائت، قامت بريطانيا وألمانيا (واتحادها الأوروبي) في قمة مجموعة العشرين G20 بإفشال طرح التنازل عن الملكية الفكرية للّقاحات ما كان سيسمح بإنتاج جرعات أكثر بسعر أقل ليصل اللقاح إلى كل من يحتاجه. ولمحبي الديموقراطية، يذكر أن البلدان التي دعمت التنازل عن الملكية الفكرية تمثل 80 في المئة من سكان مجموعة العشرين، لكن على رغم ذلك لم يمرّ الطرح.
عندما تظهر دوروثي شيا في شريطٍ مصوّر مقابل مبنى مطار مستملِك النجمة والأنصار الدولي، وهي تضحك في «عبّها» عندما تردّد جملة «من مختبراتنا إلى وخزاتكم»، مشيرةً بسبابتيها إلى إبطيها، هذا ليس عمل خيرٍ بل بروباغندا رخيصة. لكن اللافت في شيا هو حب الظهور على رغم رداءة أدائها، إذ لا تفوّت فرصة لمخاطبتنا كشعب لبناني وتخبرنا أننا في «الهوا سوا». قد يكون هناك بين خبراء التواصل من أقنعها أن أسلوبها ناجحٌ في كسب ود الجماهير، أو، وأنا أرجّح هذه الفرضية، نحن أمام شخص أصابته لوثة الـ«لايكات» ويطمح ليتوّج مسيرته المهنية بأن يصبح «إنفلوِنسر» لجيل الألفية. نتحدّث عن جيل يوزّع الإعجابات بالمليارات يميناً ويساراً على المنابر الملوّنة، لكن لا شكّ أنه فعلاً «يتأثر» بالمؤثرة شيا.

(3) بينوشيه حيّ فينا
يعرّف عن مواليد أوائل ثمانينيات إلى منتصف التسعينيات بجيل الألفية، وهو جيل كان للإنترنت والثورة المعلوماتية المرافقة دور كبير في تكوينه. المعركة محتدمة على فهم وكسب ودّ هذا الجيل كونه بدأ يصل إلى مرحلة القيادة. في تشيلي، انتُخِب أمس غابريال بوريك ابن الخمس وثلاثين سنة رئيساً للبلاد. الإعلام الطاغي في الغرب سارع لوصمه باليساري وهو حتماً كذلك إذا ما قورن بمنافسه خوسي أنطونيو كاست ابن العضو السابق في الحزب النازي الألماني. في العام 2021، وفي بلد حكمه أوغوستو بينوشيه، حاز مرشّح اليمين المتطرّف على 44 في المئة من أصوات الناخبين. لذلك لا بأس بأن يحتسب الوسطي على اليسار، فهو خير من الكارثة التي كانت ستحل على بلاد بابلو نيرودا إن لم يفز. وكان بوريك قد أعلن في حملته أنه سيفكك المنظومة الاقتصادية النيوليبرالية الموبوءة التي كرّسها بينوشيه ولم تتغيّر على رغم مرور ثلاثة عقود على الإطاحة به. كما أن الرئاسة قد تكون انتقالية. إذ أنشأت تشيلي مجمعاً دستورياً لإعادة صياغة الدستور المتبع منذ أيام دكتاتورية بينوشيه، وينهي المجمع ورشته العام المقبل الذي قد يشهد انتخابات جديدة.
على رغم اعتياد جيل الألفية على الخدمات السريعة ووفرة المعلومات، لكن التغيير ليس سهلاً. تراكمية العمل الثوري تبقى السبيل الوحيد للتغيير، وبدايته هي في مَحقِ الأوبئة. وبالمناسبة، هل هناك نشيد أجمل من نشيد الجزائر؟