«نريد أن نتشارك مع أعضاء جمعية المصارف بهذا الغرض (مكافحة الفساد) لوضع لبنان على مسار الاستقرار السياسي والاقتصادي». هذه العبارة قد تختصر كل ما أراد وكيل وزارة الخزانة الأمیركیة للإرهاب والاستخبارات المالیة بریان نیلسون، قوله لمجلس إدارة جمعية المصارف، في الاجتماع الذي عُقد أمس عن بُعد. لكنّ أهم ما قاله، لم يرد في محضر لقاء أمس ولا في بيان جمعية المصارف، إذ تحدّث جانبياً مع المصارف عن ضرورة مكافحة «اقتصاد الكاش» الذي يستخدم كوسيلة فعالة للتفلّت من القبضة الأميركية، وعن ضرورة مكافحة نشاطات «القرض الحسن». ورغم كل التعاون الذي حصده الأميركيون من مصرف لبنان والمصارف على مدى السنوات الماضية، إلا أنه أعرب عن إحباطه من إجراءات المصارف، لافتاً إلى أنه يتوقع منها المزيد من الالتزام لتبديد قلقه من «النقص الواضح في العناية الواجبة التطبيق لدى المصارف لتحديد هوية اللبنانيين المعرضين سياسياً وتحديد مصادر أموال ومصادر ثروتهم».
(هيثم الموسوي)

لقاء نيلسون مع المصارف، بحسب ما يُستنتج من محضر اللقاء الموزّع على أصحاب المصارف، هدفه زيادة الضغوط للحصول على المزيد من المعلومات التفصيلية عن رجال الأعمال والسياسيين وثرواتهم وحجمها ومصادرها. فمثل هذه المعلومات قد تشكّل فرقاً كبيراً في الأشهر المقبلة في سياق الاستحقاقات السياسية الآتية. لكن لا يمكن الحصول على معلومات كهذه إلا بحجّة «مكافحة الفساد». والمصارف هي الشريك الأنسب للقيام بذلك من تلقاء نفسها. فهم وفق تعبير نيلسون، «شركاء منذ فترة طويلة» وهو يكنّ لهم «التقدير». بمعنى أوضح، هم عملاء جيدون ارتكبوا بعض الأخطاء التي لا يغتفر استمرارها. لذا، حرص نيلسون على تذكيرهم بالعقوبات التي صدرت بحقّ كل من:جبران باسيل، علي حسن خليل، يوسف فنيانوس، جهاد العرب، داني خوري، بنك الجمّال، حزب الله والقرض الحسن... تكرار الأسماء، بمعزل عن حقيقة الوقائع المرتبطة بمن أصابتهم العقوبات، كان يُضمر إشارات تلقّتها بعض المصارف عن وجود شركات وكيانات عرضة للعقوبات ما زالت قادرة على الولوج إلى النظام المصرفي واستعماله.
رغم ذلك، كان نيلسون يتحدّث بلهجة واثقة. فمن باب توقّعاته من المصارف، يشير محضر الاجتماع إلى أن نيلسون سمع من المصارف كلاماً عن أن «الأشخاص السياسيين المعرّضين سياسياً لا يمثّلون مشكلة للمصارف، أو أن المصارف لا تملك حسابات معهم». أجاب نيلسون: «هذا ببساطة ليس صحيحاً... يجب أن تفهم المؤسّسات مصدر الثروة ومصدر الأموال». ورغم التقدير الذي يكنّه للمصارف نظراً إلى دورها في منع وصول حزب الله إلى النظام المالي اللبناني، فإن نيلسون يشعر «بالإحباط لأننا لم نشهد اتخاذ إجراءات كافية لحماية النظام المالي اللبناني من الفساد. على وجه الخصوص، أنا قلق للغاية من النقص الواضح في العناية الواجبة التي تطبّقها البنوك لتحديد هوية اللبنانيين والأشخاص المعرّضين سياسياً وتحديد مصادر أموالهم ومصادر الثروة».
ولم يكتف نيلسون بذلك، بل أشار إلى أنه تحدث مع هيئة التحقيق الخاصة عن انخفاض عدد تقارير المعاملات المشبوهة التي ترد إلى هذه الهيئة، لذا يتوقع أن تكون المصارف «سبّاقة في تقديم التقارير». أما كل من يفشل في ذلك، فعليه أن يواجه «كلفة عدم الامتثال». وقال نيلسون: «نحن ندرك أن بعض البنوك حدّدت بالفعل حسابات مرتبط بها الأفراد المعنيّون (أي باسيل والعرب وفنيانوس وجميل السيد وسواهم) وقدّموا تقارير كثيرة إلى هيئة التحقيق الخاصة. نحن نحيّي هذا العمل ونشجع المصارف على الاستمرار في إبلاغ مثل هذه المعلومات إلى الهيئة».
ما فرضناه من عقوبات ليس الإجراءات الأخيرة التي سنتّخذها لمحاربة الفساد


مع ذلك، لا يرى نيلسون في الأشخاص الذين أدرجوا على لوائح العقوبات سوى أنهم «أمثلة قليلة على الفساد المستشري الذي نراه بين النخب. علاوة على ذلك، تظهر هذه الإجراءات جديّتنا في معالجة الفساد، بغضّ النظر عمّن هو متورّط. وفقاً لذلك، سيكون من الخطأ افتراض أن هذه هي الإجراءات الأخيرة التي ستأخذ في محاربة الفساد. لكننا نحن الحكومة الأميركية لا نستطيع إنهاء الفساد في لبنان. في النهاية، التغيير يجب أن يأتي من الداخل ــــ ويجب أن تكون المصارف والمؤسسات الحكومية اللبنانية جزءاً من هذا التغيير».
إذاً، يعوّل نيلسون على المصارف وعلى الحكومة في مكافحة فساد النخب السياسية ورجال الأعمال. وبالتالي فإن المطلوب من المصارف الامتثال. ومن أمثلة الامتثال وفق نيلسون، أن تعمد المصارف الى الإبلاغ عن العمليات التي يجريها «القرض الحسن» مع المصارف. ردّ المصارف جاء بأن «القرض الحسن» هو جمعية خيرية لا علاقة لها مع المصارف، وأن السؤال يجب أن يوجّه إلى وزارة الداخلية المسؤولة عن الجمعيات وعن كل ما يتصل بها.
منطلقات نيلسون في التهديد بالعصا والجزرة، أن «الفساد في لبنان كان وسيلة لممارسة الأعمال التجارية والسياسة»، وهو يعلم أيضاً أن المشكلة الراهنة كبيرة وتتعلّق بـ«تضخّم مفرط»، البطالة، النقص في السلع والانقطاع في التيار الكهربائي. بمعنى أوضح، هو يدرك طبيعة الفساد في لبنان، ويعلم أن الوضع الحالي كارثي. لكنّه لم يتوقّع أن تجيبه المصارف بأن منع اقتصاد الكاش متوقف عن دعم الأميركيين للمصارف واستمراريّتها. فالأمر لا يتعلّق بتبادل المعلومات بواسطة هيئة التحقيق الخاصة، بل يطلب المصرفيون اللبنانيون ما هو أكثر؛ أي الحصول على تمويل يعيد إحياء مصارفهم «الزومبي».
ماذا عن حزب الله؟ خطاب الأميركيين تجاه الحزب واضح. فهم يروّجون باستمرار أنه يستغل القطاع المالي في لبنان لتغذية أنشطة عنيفة في الشرق الأوسط وخارجه. لكن نيلسون أعاد التذكير بأن الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس تآمرا مع حزب الله لجني منافع مالية شخصية، بينما ضَمِن فنيانوس أن تفوز الشركات المملوكة من حزب الله بعقود حكومية بملايين الدولارات. هذه العقود تشكّل مصدراً حيويّاً لإيرادات الحزب.
في النهاية، يستنتج نيلسون الآتي: «قد لا يكون الطريق إلى الأمام سهلاً، لكنّني أعتقد أن لدينا مصلحة مشتركة في معالجة معوّقات تعافي لبنان. التحدث معكم جميعاً (مجلس إدارة جمعية المصارف) هو إحدى مهماتي الأولى كوكيل في وزارة الخزانة يتحدّث عن خطورة الأزمة في لبنان. خطورة التحدّيات التي تواجهها الدولة والحاجة الماسّة للحصول على مساعدتكم في ذلك».



الكلام موجّه أيضاً لمصرف لبنان
لم يحصر وكيل وزارة الخزانة الأمیركیة للإرهاب والاستخبارات المالیة بریان نیلسون تهديداته بالمصارف، بل أشار إلى أنه قال كلاماً مماثلاً لمصرف لبنان ولهيئة التحقيق الخاصة أيضاً. وأشار إلى أن «من الواضح أن حكومة الولايات المتحدة لا ترى في مكافحة الفساد وحزب الله فقط مسؤولية المصارف اللبنانية. ففي لقاءاتنا مع قيادات مصرف لبنان وهيئة التحقيق الخاصة، كنّا واضحين جداً بأن الجميع يجب أن يأخذوا خطوات ملموسة لمواجهة هذه التحدّيات».