36 أماً قضين، هذا العام، من دون أن يحظين برؤية أبنائهنّ. لم يكن موتهن مجرداً من الأسباب، ولا قضاء أو قدراً، بل موت بالمجّان كان بالإمكان تفاديه.36 موتاً في عامٍ واحد، بمعدّل 3 وفيات شهرياً، إن كان لا بدّ من هذا الحساب. المفارقة ليست في حدوث ذلك، وإنما في كثرته. فهذه المرة الأولى، منذ نحو 15 عاماً، يسجّل فيها معدّل الوفيات أثناء الولادة أو في شهر الحمل هذا الرقم. حتى العام الماضي، كان المعدل بين كل 100 ألف ولادة يتأرجح بين 16 و18 حالة، ووصل في بعض السنوات إلى 13... حتى العام الماضي، قبل أن تسوء الأحوال دفعة واحدة هذه السنة، ليضرب الرقم 36 الإنجاز الذي كان يحققه لبنان سنوياً على هذا الصعيد. فاق العدد هذا العام ضعفي عدد وفيات العام الماضي، منذراً بالعودة سنواتٍ كثيرة إلى الوراء. مع ذلك، كان موتاً يمكن تفاديه، اتصالاً بالأسباب التي أدّت إليه، والتي كان أساسها سببان رئيسيان: كوفيد ـ 19 والانهيار الاقتصادي الذي يكاد يقضي على مبدأ الرعاية الصحية. 17 وفاة من أصل 36 ارتبطت مباشرة بمضاعفات الإصابة بفيروس كورونا، فيما الوفيات الـ19 المتبقية حدثت تحت وطأة الانهيار.
في السبب المتعلق بكورونا، فإن «معظم اللواتي توفين هذا العام غير ملقحات»، على ما يؤكد رئيس اللجنة التقنية للكورونا والحمل الدكتور فيصل القاق. وعلى رغم الدعوات المبكرة لإدراج الحوامل ضمن خطة التلقيح، إلا أنها لم تلق صداها المطلوب، إذ إن تلقيح الحوامل بدأ قبل نحو أربعة أشهرٍ فقط! ولا يبدو، خلال هذه الأشهر القليلة، أن تلقيح الحوامل كان يسير على ما يرام، شأنه شأن برنامج التلقيح الذي فشل بعد عامٍ ونصف عام في الوصول إلى النسبة المطلوبة، حيث لا تتجاوز نسبة 34 في المئة.
لهذا السبب، وصلت معظم الحالات «مستوية» إلى المستشفى، وكانت الوفاة في معظمها ناتجة من قصور شديد في الجهاز التنفسي. ويشير القاق هنا، استناداً إلى الحقائق العلمية، إلى أن الإصابة الشديدة بالفيروس تزيد من مخاطر الضغط الحملي والتجلط ودخول العنايات الفائقة وحتى الموت.
لم تلحظ خطة التلقيح الحوامل إلا قبل نحو أربعة أشهرٍ فقط


ما يقوله القاق، وما قاله على مدار أشهرٍ طويلة سابقاً، بيّنته دراسات علمية أظهرت ارتباطاً وثيقاً بين موت الحوامل غير الملقحات وفيروس كورونا. آخر تلك التقارير أصدره مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) حول تأثيرات فيروس كورونا على الحمل، أكد أن «الفيروس يشكل خطراً متزايداً على الحوامل ويسبب المرض الشديد وحتى الوفاة». ولفت إلى خطورة متحوّر دلتا الذي أدى إلى تفاقم هذا الخطر وزيادة احتمال أن ينتهي المطاف بالحامل المصابة بالفيروس وغير الملقحة «في وحدة العناية المركزة»... وفي أسوأ الحالات «إلى الموت». وفي حالات أخرى، يشير التقرير إلى أن «ولادة جنين ميت من المحتمل أن تكون له نتيجة مدمرة أخرى وعكسية للحوامل المصابات بالفيروس». ولهذه الأسباب، أوصت الكلية الأميركية لأطباء التوليد وأمراض النساء بضرورة التطعيم ضد فيروس كورونا لجميع النساء الحوامل.
هذا واقع مثبت بالحقائق العلمية، إلا أنه في المعيار اللبناني لم يكن ضمن أولوية خطة التلقيح، فبقيت صحة النساء في آخر سلم تلك الأولويات التي أوصلت إلى كل هذا الموت.
في الشق الآخر من الأسباب، فقد دمّر الانهيار الاقتصادي قدرة معظم النساء على الوصول إلى الخدمات الطبية أو متابعة مراحل الحمل، بعدما باتت رعاية الحمل مكلفة، إن كان في ما يخص الزيارات الروتينية إلى عيادات الأطباء أو في فقدان القدرة على دخول المستشفيات... إذا ما أخذنا في الاعتبار أن 80 في المئة من الحوامل يقصدن العيادات الخاصة (private). ومعلوم أن متابعة الحمل تفترض 9 أو 10 زيارات إلى عيادة الطبيب النسائي، يتخلّلها إجراء صورٍ صوتية للجنين. وقد باتت هذه المتابعة اليوم خارج قدرة كثيرة. هكذا، وبحسب القاق، تقلّصت أعداد الزيارات كثيراً، حتى «بتنا نرى نساء يأتين إلى العيادات في الشهر السادس أو السابع». ويعني هذا الوصول المتأخر احتمالاً واحداً: فوات أوان التدخل في حال كانت الحامل أو الجنين بحاجة إليه.
اليوم، قد «تلفّ» الحامل على أكثر من مستشفى قبل أن تستقر حيث... الأرخص. فيما ضرب الانهيار المبدأ الثلاثي الأبعاد للرعاية الطبية: التقصي (التشخيص)، الوصول المبكر والتدخل المبكر، فبات المبدأ «باللبناني» «تأخراً ثلاثي الأبعاد»: في التشخيص والوصول والتدخل.