في بلد صغير كلبنان يعتمد اقتصاده بشكل كبير على السياحة، يفترض أن يكون في أعلى سلم أولوياته الحفاظ على البيئة. ومن المفترض أنه لهذه الغاية أنشئت وزارة البيئة عام 1993، بموجب القانون رقم 216 الذي أناط بها وضع سياسات عامة، مع دراسات تفصيلية للمحافظة على المحيط ومكافحة التلوث وتنظيم استعمال الموارد الطبيعية، وخطط طويلة الأمد تراعي السلامة العامة والصحة والبيئة ومقتضيات التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تعزيز التربية البيئية.إلا أن رياح المال والسلطة لم تجر بما تشتهي سفن البيئة والصحة كما نص القانون. فبعد 28 سنة على إحداث وزارة البيئة، لا يزال لبنان غارقاً في الأزمات البيئية، أبرزها أزمة النفايات، واستمرار تلوث نهر الليطاني - أطول نهر في لبنان - بسبب عدم معالجة مياه الصرف الصحي بشكل أساسي، وتضاعف نسب تلوث الهواء بسبب أزمة الطاقة، وغياب خطة للنقل المشترك، وعدم التشدد في تطبيق القيم الحدّية على الانبعاثات الصناعية، وانتشار عشوائي للمقالع والكسارات، وازدياد حرائق الأحراج والغابات بسبب الإهمال وضعف الإمكانات وغياب الإجراءات الوقائية.
وإلى كل تلك الأزمات المتراكمة، تواجه وزارة البيئة تحديات أخرى، بنيوية، ترتبط بكيفية توزيع المهام والصلاحيات داخل مؤسسات الدولة. ففي ملف النفايات مثلاً، يُعدّ الكنس والجمع من اختصاص البلديات مباشرة أو عبر مجلس الإنماء والإعمار، أما المعالجة في معامل الفرز والتسبيخ، فمعظمها يدار من وزارة شؤون التنمية الإدارية، فيما المطامر من حصة مجلس الإنماء والإعمار. والأمر نفسه ينطبق على ملف معالجة المياه الآسنة. فهناك نحو 90 محطة تكرير تتبع إدارياً لمؤسسات المياه في وزارة الطاقة ومجلس الإنماء والإعمار، ما يفاقم الفوضى التي تعم القطاع الاستثماري للمياه ويحول دون تكرير مياه الصرف الصحي في مناطق عدة، فتنشأ هذه المحطات بهبات دولية ثم يتولى تشغيلها مجلس الإنماء والإعمار عبر تلزيمات لمدة سنة أو سنتين، وعند انتهاء العقود، تكون الدولة عاجزة عن استلامها وتشغيلها. كل ذلك بمعزل عن رأي وزارة البيئة.
وزارة البيئة حالياً هي هيئة ناظمة مجرّدة من أي ذراع تنفيذية أو إجرائية


أما في ملف المقالع ومحافر الرمل والكسارات، ومن ضمنها تلك العائدة لشركات الإسمنت، فرغم أن الموافقة تأتي من المجلس الوطني للمقالع والكسارات الذي يرأسه وزير البيئة، إلا أن إصدار الرخص من اختصاص المحافظ الذي يخضع لسلطة وزارة الداخلية والبلديات، وهذه دأبت في الحكومات السابقة على إعطاء مهل قانونية خلافاً للأصول ومن دون العودة إلى المجلس الوطني في الوزارة. أما إصدار رخص استصلاح الأراضي التي استعملت في كثير من الأحيان ذريعة لإنشاء كسارات فهي من اختصاص وزارة الزراعة حصراً. والأمر نفسه ينسحب على موضوع مكافحة الحرائق، حيث الدفاع المدني وفوج الإطفاء المولج حماية الغابات والأحراج تحت سلطة وزارة الداخلية والبلديات، فيما حراس الغابات، إن وجدوا، يخضعون لسلطة وزارة الزراعة، وتتبع وحدة إدارة مخاطر الكوارث مباشرة لرئاسة مجلس الوزراء لا لوزارة البيئة.
وتعاني الوزارة من صعوبات مالية تحدّ من قدرتها على المبادرة في العاصمة وفي الدوائر الإقليمية، في ظل عدم رغبة لدى معظم الجهات المانحة بتمويل أي مشاريع جديدة لا تلحظ خطة مالية واضحة تؤمّن استمرار عمل المرفق العام. وعلى سبيل المثال، فإن شبكة رصد نوعية الهواء التي أنشئت بهبة من الاتحاد الأوروبي معطلة بالكامل منذ منتصف 2019 لعدم توافر أموال تغطي كلفة التشغيل والصيانة. كما تعاني الوزارة من أضرار كبيرة لحقت بمبناها من جراء انفجار المرفأ، ومن تحديات في الموارد البشرية في ظل النزف الحالي بسبب هجرة الموظفين من أصحاب الخبرة من جهة، وإدارة عامة غير فعّالة من جهة أخرى، وقد تفاقم الوضع مع الإضرابات المتلاحقة لموظفي القطاع العام، معطوفاً على ترهل عام وتقاعس الدولة عن تطبيق القوانين والمراسيم والقرارات.
في المحصلة، وزارة البيئة حالياً هي هيئة ناظمة مجرّدة من أي ذراع تنفيذية أو إجرائية، مطلوب منها أن تعالج كجرّاح من دون مبضع أو أن تتصدى كجندي من دون سلاح وذخيرة، ما يستدعي رؤية عصرية جديدة تضع الحفاظ على البيئة في صلب عمل جميع الوزارات، تأخذ في الاعتبار الكلفة الباهظة للتدهور البيئي وأثره على الفاتورة الصحية، وتستفيد من القيمة الاقتصادية والسياحية لبيئة لبنان. فتواكب ديناميكية وزير البيئة الحالي بسلسلة إصلاحات تتضمن إعادة النظر في صلاحيات الوزارة وهيكليتها ومهامها، ومنحها الإمكانات والوسائل التنفيذية، لتساعد لبنان بالإيفاء بتعهداته تجاه الجهات المانحة وتكون حاضرة لمؤتمر «سيدر» في حال انعقاده.
في مرحلة التعافي اللاحقة المنتظرة، يقع على عاتق الدولة أن تضع على رأس أولوياتها حماية مصادر ونوعية المياه عبر سياسات تزيد الموارد المائية وترشّد الاستهلاك، وإيجاد إدارة متكاملة للنفايات الصلبة مع خطة واضحة لاستعادة الكلفة، وتنظيم المقالع والكسارات والمرامل، ومنها العائدة لقطاع الإسمنت، بشفافية عالية، ووقاية الغابات من الحرائق والتعديات عبر إقامة نظام إنذار مبكر وتعيين حراس للغابات كمدخل للتأقلم مع ظاهرة تغير المناخ، ووضع الأسس العملية لإنتاج الطاقة المتجددة تبدأ بمرحلة انتقالية تعتمد الغاز الطبيعي وتشجّع النقل العام النظيف للتخفيف من الانبعاثات ولتحسين نوعية الهواء، وحماية التنوع البيولوجي عبر إعادة النظر في قانون الصيد وإنشاء مزيد من المحميات في المواقع المهددة، ونشر التوعية البيئية عبر تحديث مناهج التربية الوطنية واعتماد التثقيف الأخضر في المدارس لإحداث التغيير السلوكي المجتمعي المطلوب.

* متخصص في علم السموم،
أستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت، مستشار وزير البيئة