في عام 1949، أصدرت المحكمة العسكرية حكماً بسجن رئيس تحرير جريدة «النهار» غسان تويني لثلاثة أشهر. صدر ذلك الحكم، إثر جريمة ارتكبتها المحكمة نفسها، حين قضت بإعدام الزعيم أنطون سعادة. وكان تويني قد كتب مقالاً اعتبرته السلطة حينذاك مسّاً بها وبهيبة مؤسساتها الأمنية والعسكرية. في ذلك الزمن الذي يوصف بـ«الجميل» (في هذا الوصف الكثير من المازوشية) كان الإعلام يخضع للرقابة. وكانت الصحف تصدر أحياناً تاركة مساحة بيضاء بعدما قصّ الرقيب مضمونها. والحكم على صحافي بالسجن، كان يُعدّ «عادياً»، إلى حد ما. أما في عام 2021، فتبدو قيادة الجيش خارج الزمن، بعدما انتزعت الصحافة، على مرّ العقود، حق الامتناع عن سجن الصحافي متى كان الجُرم الذي يُلاحَق فيه مرتبطاً بمهنته، فضلاً عن حق التقاضي أمام محكمة المطبوعات حصراً. في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، أمر قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيس المحكمة العسكرية العميد منير شحادة بأن يُصدر حُكماً بسجن صحافي بسبب كلمة قالها في مقابلة تلفزيونية. وتلك الكلمة التي قالها الزميل رضوان مرتضى، فيها توصيف لطريقة تعامل الجيش مع قضية بحجم وجود 2750 طناً من مادة نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، ما أدى إلى انفجارها والتسبب بواحدة من أكبر الكوارث التي حلّت بالعاصمة خارج أوقات الحروب والاجتياحات.
لم يُخفِ شحادة في الأشهر والأسابيع الماضية واقع انه ينفّذ أمراً عسكرياً، لا إجراءً قانونياً

رئيس المحكمة العسكرية (أعضاء هيئة المحكمة وممثل النيابة العامة هم مجرّد «كومبارس») امتثل لأمر قائد الجيش، وأصدر حُكماً غيابياً بسجن الزميل مرتضى مدة سنة وشهر! السجن لسنة وشهر، عقوبة رأت المحكمة أن مرتضى يستحقها، بسبب ارتكابه جرم قول كلمة.
المحاكمة جرت غيابياً. ولم تراعِ أي أصل من أصول العدالة:
أولاً، لم يتبلّغ الزميل مرتضى بوجوب مثوله أمام المحكمة، لضمان حقه في الدفاع عن نفسه.
ثانياً، المحاكمة كانت صوريّة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ عدلية. فالمحكمة العسكرية ليست الجهة الصالحة لمحاكمة الصحافيين. ثمّة محكمة اسمها «محكمة المطبوعات»، هي المختصة بالنظر في جرائم النشر والقول. لكن المحكمة العسكرية قررت وضع يدها على القضية، امتثالاً لأمر قائد الجيش، لا أكثر. ولم يُخفِ شحادة في الأشهر والأسابيع الماضية واقع أنه ينفّذ أمراً عسكرياً، لا إجراءً قانونياً. تحدّث عن الإحراج أمام رئيسه، كونه ضابطاً مُطالَباً بالدفاع عن هيبة المؤسسة التي أهدرتها كلمة (كلمة واحدة لا أكثر) خرجت من فم صحافي كان يعلّق على واحدة من أكبر الكوارث في تاريخ العاصمة.
ثالثاً، ثمة شيء من «الخصومة» بين الزميل مرتضى ورئيس المحكمة العسكرية، نتيجة الكتابة عن عدد من المخالفات التي ترتكبها المحكمة الاستثنائية، وآخرها قبل 9 أيام (يوم 18 تشرين الثاني 2021)، في تقرير نشرته «الأخبار» عن «تبرئة «عرّاب» تفجيرات انتحارية بوساطة سياسية ــــ دينية». وحمّل مرتضى مسؤولية الحكم لرئيس المحكمة شخصياً. رئيس محكمة يحترم الحدّ الأدنى من أصول العدالة، كان ينبغي أن يتنحّى عن متابعة النظر في الدعوى المقامة من قائد الجيش شخصياً ضد الصحافي نفسه، بجرم المسّ بهيبة المؤسسة العسكرية. هذا عدا عن أن المحكمة كانت ملزمة بإعلان عدم اختصاصها النظر في جرائم القول والنشر، لأنها تدخل في الاختصاص الحصري لمحكمة المطبوعات. لكنها محكمة استثنائية في بلد أول من يخالف القانون فيه، هم المؤتمنون على تطبيقه.
لكن... من الواجب عدم تضييع الوجهة. هذا الحكم لم يُصدره العميد منير شحادة، بل أصدره العماد جوزيف عون شخصياً. ومشكلة الأخير معنا في «الأخبار»، ومع الزميل رضوان، أننا نقول ما لا يقوله الآخرون. اعتاد عون التطبيل حيثما كان. واعتاد أنّ كلمته، كما كلمة «مكتب القائد»، لا تُردّ، وخاصة في الإعلام.