يكمن استعصاء الحلقة المقفلة في أن الأفرقاء جميعاً ضالعون فيها، إلى حدّ أن أحداً منهم لا يسَعُه بعد الآن الخروج من الحلبة، ولا التنازل للآخر، ولا القبول بالهزيمة. في المقابل، يصعب مع هذا الضلوع، إلى الآن على الأقل، إيجاد تسوية ترضي الجميع في آن، وتخرجهم من مآزقهم.أول من أمس، وقف القضاء إلى جانب المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار، ورفض كل الردود المطالبة بكفّ يده، ما عنى لدى الثنائي الشيعي أن لا يتزحزح عن شرطه وربط التئام الحكومة بفرض استجابته. ليست هذه الحلقة الوحيدة العالقة، المهدّدة للحكومة والانتخابات النيابية فحسب.
ليس ثمة ما يؤكد حصول الاستحقاق المقبل، مهما يكن موعده، قبل الوصول إلى موعد «تسريب» مضمون التقرير المفترض أن يُعِدّه عضو المجلس الدستوري المكلف إياه. مفاد ذلك أن مصير الانتخابات لا يتوقف على قرار المجلس الدستوري ونصاب اجتماعه بثمانية أعضاء، للتأكد ممّا سيقوله في قانون الانتخاب المعدّل المطعون فيه. على غرار ما حدث عام 2013، يوم «تسرّب» مضمون تقرير المقرّر الآيل إلى إبطال قانون تمديد ولاية مجلس النواب، لا يعود مهماً انتظار مذاكرة المجلس الدستوري، المؤلف على صورة المرجعيات التي عيّنته أو انتخبته، وعلى صورة انقسام هؤلاء حيال قانون الانتخاب المعدّل.
ذلك ما يشير إليه الترابط الوثيق بين التحقيق في انفجار المرفأ ومآل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، كما بينهما وانتخابات 2022. لا الحكومة قادرة على إطاحة البيطار، ولا على فرض إقصاء وزير الإعلام جورج قرداحي من صفوفها ما لم يفعل هو بالذات. وهو إثبات ثان، بعد أحداث الطيونة والمطالبة بإطاحة البيطار، على أن الثنائي الشيعي وحده يمسك بمفتاح التئام مجلس الوزراء وتعطيله. كلا رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة غير قادرين على فرض انعقاده، ولا على إرغام الوزراء على الانصياع إليهما.
لديهما أيضاً مشكلتهما. يختلفان على مقاربة مصير قرداحي: الرئيس ميشال عون يفضّل أن يستقيل من تلقائه، وهو لن يقبل بطرح إقالته في مجلس الوزراء لئلا يُستشم من هذا الإجراء أنه يستجيب ضغوطاً خارجية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. بدوره ميقاتي لا يفاضل بين الاستقالة والإقالة. ما يعنيه خروج الوزير من حكومته. استكمال إقفال الحلقة الصغيرة هذه، أن قرداحي سمع من رئيس البرلمان نبيه برّي أن الاستقالة صارت وراء الجميع، وصفحة طويت نهائياً. بذلك تتراكم أسباب تعطيل حكومة ميقاتي المدعوة إلى إنجازات ثلاثة متلازمة في ولايتها القصيرة: الإصلاحات والتحقيق في انفجار المرفأ وإجراء الانتخابات النيابية. بيد أن أياً منها لم يحرز التقدّم المجدي منذ نيلها الثقة في 20 أيلول.
«تسريب» مضمون تقرير المجلس الدستوري، لا المذاكرة، يحدّد سلفاً مصير الانتخابات


الإضافة الجديدة في مكامن المشكلة، هذه المرة وهي ليست الأولى لكنها الأوضح والأكثر انقشاعاً، أن المؤسسات الدستورية هي التي تتولى تعطيل نفسها بنفسها، وتعطب استحقاقاتها. هذه المرة المؤسسات الدستورية كالقضاء والمجلس الدستوري المفترض أنهما صاحبا الاختصاص غير المسيَّس، كما هو عليه مجلس النواب ومجلس الوزراء، هي التي تخرّب في منحيين مغايرين:
القضاء - وتحديداً الهيئة العامة لمحكمة التمييز - عندما «يخرّب» ما يتوخاه بعض السياسيين من أجل إقفال ملف انفجار مرفأ بيروت نهائياً، وتالياً معاقبة البيطار وطرده منه و«عفا الله عما مضى وحصل». فإذا قرار القضاء معاكساً الإرادات تلك، يرفض مخاصمة الدولة ويغرّم طالبي الردود، ويحمي المحقق العدلي.
والمجلس الدستوري الحائر كيف «يخرّج» ما يريده سياسيون ولا يريده سياسيون آخرون. المطلوب منه، عند فريق، في معرض نظره في قانون الانتخاب المعدّل، تحديد الغالبية الحالية في مجلس النواب بوفاة 12 نائباً، من أجل أن يقود تفسيره هذا إلى إبطال التصويت الأخير على قانون الانتخاب في مجلس النواب في التعديلات المطعون فيها. كأن يقول إن الغالبية الدستورية لا تزال نفسها رغم تناقص النواب كما نصت عليها المادة 57، وهي الأعضاء الذين يتألف منهم مجلس النواب قانوناً. يطالب هذا الفريق المجلس الدستوري أيضاً بإبطال الفقرة الجديدة المشابهة لما ورد في قانون الانتخاب 40/2017 (تصويت الاغتراب للدوائر الـ15 الوطنية) وفرض اقتراع هؤلاء للدائرة المحدثة الـ16 بضم ستة نواب قاريّين إلى البرلمان الحالي كي يرتفع عدده إلى 134 نائباً.
لكن ثمة ما هو مطلوب آخر من المجلس نفسه، عند فريق آخر، متمسك بالإبقاء على التصويت القاري للدوائر الوطنية. بغالبيته الحالية، أبقى البرلمان على فقرة 2017 (اقتراع المغتربين في الدوائر الـ15)، ويعوّل على تعذّر التئام المجلس الدستوري كي يصير إلى نفاذ القانون المطعون فيه. في مغزى هذا الإصرار تأكيد كسب مجلس النواب، وبالذات رئيسه، جولته على رئيس الجمهورية عندما رفض ردّه القانون، وكسب الجولة المكملة بإحباط الطعن المقدّم من حزب الرئيس. ليس خافياً أن الثنائي الشيعي، بحسب ما تروّج أوساطه، هو الأكثر سيطرة على ناخبي الاغتراب داخل طائفته، والأصوات التفضيلية المجيرة التي تضمن له فوز مرشحيه جميعاً.
المفارقة أن المجلس الدستوري، أياً يكن قراره، لن يرضي أحداً من فريقي النزاع الداخلي في ضوء الأرقام الجديدة للمسجلين، غير المتوقعة: لا الذين يتمسكون بتصويت المغتربين على الدوائر الوطنية، ولا الذين يتمسكون بتصويتهم للمقاعد الستة المحدثة. ما يجعلهم في كلتا الحالين أمام احتمال تعطيل نصابه. وهو أسهل الخيارات نظراً إلى انقسام الأعضاء العشرة في المجلس الدستوري على أربعة أفرقاء اختصروا القوى السياسية وطوائفهم في آن: رئيس الجمهورية ميشال عون وتكتل لبنان القوي، والثنائي الشيعي (الرئيس نبيه برّي) والرئيس سعد الحريري والنائب السابق وليد جنبلاط. ثلاثة من هؤلاء حداً أدنى يمنع نصاب التئام المجلس الدستوري واتخاذ قراره بعد المذاكرة.
يوم أقر مجلس النواب في 19 تشرين الأول تعديل قانون الانتخاب، كان عدد المسجلين في الاغتراب دون مئة ألف بكثير، بالكاد اقترب من 50 ألفاً أحبط التوقعات وأوحى في أحسن الأحوال برقم قريب من ذاك المسجل في انتخابات 2018. بعدما رده رئيس الجمهورية في 22 تشرين الأول، ورفض مجلس النواب في 29 تشرين الأول الأخذ بأسباب الرد، تجاوز عدد المسجلين المئة ألف بأرقام قليلة غير متفائلة بالقدر المتوقع. سرعان ما تضاعف مع التقدّم بالطعن في قانون الانتخاب في 17 تشرين الثاني، كي يتجاوز 180 ألفاً، بالغاً الذروة غير المحسوبة مع إقفال باب التسجيل في 20 تشرين الثاني، برقم 244 ألفاً و442 ناخباً.