البارحة، سُجّل لدى اللبنانيين غير المقيمين 150 ألفاً و409 ناخبين، بزيادة 11 ألفاً و843 ناخباً عن العدد المسجّل الأحد. هؤلاء يتحضّرون للمشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة المقرّرة، حتى إشعار آخر، في 27 آذار. لأرقام الناخبين حساب، كما لأرقام المقترعين حساب. الأخيرون هم أول المعوَّل عليهم، وفرز الأصوات ثاني المعوَّل عليهم.مؤشر تسارع التسجيل وتصاعد الأرقام، أن الزيادة اليومية مرشحة لأن تزيد على عشرة آلاف مسجل، وهو ما أنبأ به رقم البارحة. أضف اتضاح وجود أكثر من محرّك فعلي لإقبال غير المقيمين بكثافة على التسجيل، من غير التحقق بعد تماماً من مصادر تحريكهم المتشعبة والمتنافسة. إذ انخرطت فيه علناً مكاتب الأحزاب اللبنانية الكبرى في الخارج، باستثناء حزب الله الناشط سرّاً بسبب العقوبات الملاحق بها غربياً وخليجياً، بمثل انخراط متموّلين ونافذين وذوي تأثير في جاليات الخارج، وتأثير سلطات الدول لا سيما منها المعنية بالشأن اللبناني، بتحريك لوبيات لبنانية للتشجيع على التسجيل والاقتراع. بذلك، على صورة ما يجري في لبنان، يبدو الناخبون غير المقيمين في سباق مماثل.
علامات التفاؤل بالأرقام هذه لا تعني حكماً التفاؤل بالنتائج في وجهة واحدة يُراد منها الاعتقاد بأن من شأن اقتراع غير المقيمين قلب نتائج الانتخابات رأساً على عقب، على غير ما تتوقعه الطبقة السياسية الحاكمة. يبرّر ذلك تصدّر اهتمام الطبقة هذه بأنصار أحزابها في الخارج، وتسهيل تسجيلهم حيث يقيمون.
من المفترض أن تنتهي مهلة تسجيل الناخبين بعد أربعة أيام، في 20 تشرين الثاني. وهو موعد ثابت، غير قابل للتمديد إن مُدّد موعد إجراء الانتخابات. من ثم يقفل باب تسجيل غير المقيمين توطئة للانتقال إلى المرحلة التالية، القاضية بانتظام هؤلاء في لوائح الشطب قبل الوصول إلى صناديق الاقتراع.
إلى الآن، لا تزال الأرقام أرقاماً فحسب. لا مغزى سياسياً مفيداً لها بعد، ولا يسعها خصوصاً التوقع والتنبؤ. مقدار ما هي مطمئنة، ليس في الإمكان التكهّن بجدواها قبل التأكد ممّا يفترض أن يصدر عن المجلس الدستوري في الطعن في قانون الانتخاب المفترض أن تتقدّم به كتلة لبنان القوي. القرار المزمع اتخاذه في المجلس الدستوري حيال مراجعة الطعن سيحدّد الوجهة التي يصير من خلالها إلى استثمار أصوات المقترعين غير المقيمين.
حتى هذا الوقت، في ظلّ القانون المعدّل النافذ، هم مدعوون إلى التصويت للنواب الـ128 في الدوائر الانتخابية الـ15 الحالية المقرّرة في قانون الانتخاب 44/2017. الفريق المؤيد للطعن يأمل في نقض هذا التصويت كي يصير إلى ما كان القانون لحظه عند وضعه، وهو اقتراع غير المقيمين للدائرة 16 المخصصة لهم بستة نواب في القارات الست.
أحزاب الداخل في الخارج ليست أقل اهتماماً بتسجيل الناخبين


على نحو كهذا، يعطي اقتراع غير المقيمين للنواب الستة نتائج مختلفة عن تلك المعطاة للاقتراع للنواب الـ128، والمؤمل أنه سيُحدث - مع ما يجري التحضير له في اقتراع الداخل - ما لا يرضي الطبقة السياسية الحاكمة.
عندما أجريت انتخابات 2018، لم يكن قد حدث كل ما تلى 19 تشرين الأول 2019، ولا الانهيار شبه الشامل الذي ضرب ولا يزال النظام والدولة والمؤسسات والمجتمع. بدا اقتراع المغتربين حينذاك أشبه بمحاولة، قد تكون مجدية، لكسر الإطباق الكامل للطبقة السياسية الحاكمة على كل البلاد والعباد. على أن نتائج اقتراع الخارج أتت أكثر من مخيّبة، ما يخشى تكرار نتائجه السياسية في معزل عن أرقامه المضاعفة. لم يفز مرشحو المجتمع المدني سوى بـ2370 صوتاً، من مجموع 46 ألفاً و799 مقترعاً، من 82 ألفاً و965 ناخباً. بذلك يكون مناصرو المجتمع المدني - قبل أن يمسي لاحقاً حراكاً شعبياً وانبثاق مئات الجمعيات والهيئات المختلفة منه - قد اقترعوا بنسبة 5 في المئة من مجموع المقترعين غير المقيمين، ولم يفز مرشحو المجتمع المدني في لبنان من هؤلاء سوى بـ2.66 في المئة. في المقابل، ذهب الكمّ الأكبر من أصوات مقترعي القارات الست إلى الأحزاب السياسية القوية في الداخل.
مؤشر كهذا قد لا يكون قاطعاً ونهائياً تكراره بانقضاء أربع سنوات على التصويت المنصرم. بيد أن الإفراط في التفاؤل حياله وتوقّع مفاجآت يصبح من السذاجة التعويل عليه كعامل حاسم. لا تعمل أحزاب الداخل في الخارج بوتيرة أقل مما يفعله المنادون بالتغيير، ولا تنفق وتستقطب وتحرّض وتستفزّ بهمّة أضعف. أضف أن بعضها متجذّر في الخارج لعقود منصرمة.
أما الأكثر مدعاة لتقليل التفاؤل، فهي الآلية المنصوص عليها في قانون الانتخاب 44/2017، المجرَّبة في انتخابات 2018، وأفضت إلى ثمار محزنة استناداً إلى القانون نفسه. اقتراع غير المقيمين يجري في أقلام السفارات والقنصليات. على الأثر يبدأ - فحسب - عدّ أوراق الاقتراع، وتحفظ في مظاريف توضع في أكياس مرصرصة، على أنها حقائب ديبلوماسية. لا تُفتح هناك ولا تُفرَز، مع أنها داخل السفارات والقنصليات على أراضٍ لبنانية، بل تنقل إلى هنا كي تحفظ في مصرف لبنان، في انتظار إجراء الاقتراع الوطني بعد أسبوعين. بعدها يجري فرز النتائج القارية والوطنية معاً.
الذريعة الملغومة المعلنة التي تحجج بها السياسيون، عرّابو قانون 2017، أن إعلان النتائج القارية، بعد فرزها في الخارج، من شأنه التأثير في الاقتراع الوطني، وربما على معنويات اللوائح والمرشحين وفوزهم حتى، ما يقتضي إجراء فرز متوازن للاقتراعين القاري والوطني. أما المراد غير المعلن من هذه الموازاة، فتقدير استخدام الاقتراع القاري في نتائج الاقتراع الوطني، على نحو يتيح مدّ الأخير بالأصوات التي يفتقر إليها للفوز. ذلك ما عنى الكثير مما قيل إبان فرز الأكياس القارية عام 2018، حينما تردد أن أكياساً ضاعت في طريقها إلى لبنان، وأخرى كانت معدّة سلفاً في الداخل لتعويض النقص.
الأصحّ أن الأكياس القارية ليست سوى هدية للزعبرة لمَن بين أيديهم الحل والربط في آلية الإشراف على إدارة الانتخابات النيابية.
هكذا يُنظر إلى الاقتراع القاري كعامل مكمّل للاقتراع الوطني، أكثر منه مساوياً له ومتكافئاً معه. يجعل ذلك أيضاً المعنيين بالاستحقاق المقبل يراقبون باهتمام صعود أرقام تسجيل غير المقترعين: كلما زادت وأراحت المعوّلين على التغيير، بعثت الارتياح في قلوب خصومهم. كلما كثرت الأرقام، توسّعت فرص الزعبرة.