تترتّب على مصرف لبنان فواتير متأخّرة لمستوردي المواد الغذائية والأدوية بما يصل إلى 500 مليون دولار. هذه الفواتير تعود إلى بضعة أشهر وقد تأخّر «المركزي» عمداً عن سدادها من أجل إخفاء حقيقة المستوى الذي بلغته احتياطاته بالعملة الأجنبية. لكنه لم يكتف بذلك، بل قرّر أن يدفع هذه الأموال بالليرة اللبنانية على سعر صرف منصّة «صيرفة» تاركاً المستوردين يراكمون الطلب على الدولار في السوق الحرّة ويسهمون في رفع سعره مقابل الليرة.في الأشهر الأخيرة من دعم مستوردات السلع الغذائية والصناعية والزراعية والأدوية، امتنع مصرف لبنان عن تسديد فواتير عدد كبير من المستوردين، تزامناً مع بدء النقاش بشأن رفع الدعم. انتهى الأمر بتراكم متأخّرات كبيرة على «المركزي»، فيما عمد المستوردون إلى قطع السلع عن السوق وتقنينها. بالنسبة لهم لم يكن مهماً إذا كانت هذه السلع أساسية كالأدوية وحليب الأطفال، أو كانت غذائية ضرورية. أفضت الضغوط المتبادلة بين الطرفين إلى الآتي: أتاح الأمر لمصرف لبنان التخلّي عن دعم مستوردات الغذاء بشكل نهائي، ورفع الأسعار المحليّة للأدوية تمهيداً لرفع الدعم عنها نهائياً. في المقابل، فتحت الضغوط التي مارسها المستوردون الباب أمام التفاوض مع مصرف لبنان على طريقة الدفع.
هكذا توصّل مستوردو المواد الغذائية، على مضض، إلى اتفاق مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يقضي بأن يدفع لهم الفواتير المتأخّرة بالليرة وفق سعر صرف الدولار على منصة «صيرفة» كما يكون السعر في اليوم الذي يُحرّر «المركزي» الشيكات. وبحسب مصدر في مصرف لبنان، فإنّ قيمة الفواتير التي اتُفق على تسديدها لمستوردي المواد الغذائية بلغت 110 ملايين دولار سيتم تسديدها على سعر 14600 ليرة. ومن ضمن الاتفاق، أن يدفع مصرف لبنان 40% من المبلغ الإجمالي كدفعة أولى، وتقسيط الباقي على 12 قسطاً متوازياً.
نفّذ مصرف لبنان المرحلة الأولى من الاتفاق وفتح الباب أمام مستوردي المواد الغذائية لتقديم طلباتهم. يُشير مصدر في المصرف إلى أن عدد الشركات التي قبضت الدفعة الأولى يبلغ 15، بينما الشركات الباقية ما زالت في مرحلة تقديم الطلبات لقبض متأخراتها. الشركات التي قبضت أوضحت أنها حصلت على الدفعة الأولى على شكل تحويل من مصرف لبنان إلى المصارف. «وهذه المصارف امتنعت عن تسليم المبالغ لمستحقيها بحجّة عدم توافر السيولة النقدية بالليرة وأبلغت الشركات أنها ستقسّط الشيكات على دفعات». ويُشير نائب رئيس جمعية الصناعيّين زياد بكداش، إلى أنّ الشيكات التي قبضها التجّار من المصارف عملوا على تسييلها في السوق بحسم يبلغ 10%، أي أنهم خسروا 10% من قيمتها.
هشاشة السوق المحليّة النقدية تعني أن كميات صغيرة من العرض والطلب تصنع اتجاهاً


عمليّاً، حصلت الشركات على سيولة نقدية بالليرة وسعت مباشرة إلى شراء دولارات فيها. المصدر يقول إن هذه المبالغ لم تكن السبب في ارتفاع سعر الدولار خلال الشهر الماضي كما أُشيع في بعض وسائل الإعلام، بل كان السبب رفع الدعم نهائياً عن المازوت الذي أدّى إلى زيادة الطلب على الدولار النقدي بقيمة 4 ملايين دولار يومياً.
رغم ذلك، يعتقد المطلعون على الأسواق المالية وما يحصل فيها من عمليات تبادل يومية، أن السوق المحلية بعد تحوّلها إلى «سوق الكاش» أصبحت أقلّ عمقاً مما كانت عليه سابقاً. بمعنى آخر، كلما كانت السوق عميقة كلما كان من الصعب أن تتأثّر بعمليات صغيرة، والعكس صحيح. ففي السوق المحلية، ارتفعت احتمالات التأثير على السوق بكميات صغيرة من الطلب أو العرض التي باتت تصنع اتجاهاً. وعندما يعرض على بعض مجموعات «الواتساب» طلب لشراء 100 ألف دولار، يرتفع السعر سريعاً. بمعنى أوضح، أصبحت هذه السوق: نقدية، هشّة، ومتذبذبة جداً. وهذا يعني أن الطلب الناتج من الليرات التي حصل عليها مستوردو الغذاء كانت له مفاعيل في السوق إضافة إلى المفاعيل الناتجة من رفع الدعم عن المازوت وإجبار الشركات على شراء الدولارات من السوق.
رغم ذلك، يقول المطّلعون على السوق إنه لولا تدخّل مصرف لبنان لبيع الدولارات لكان سعر الدولار قد ارتفع أكثر. «لكن مصرف لبنان لا يتدخل في السوق إلا إذا كان يقصد أن يقدّم خدمات سياسية لهذا الفريق أو ذاك» يقول أحد المطّلعين. فقد كان نادراً أن يتدخّل المصرف في السوق خلال السنتين الماضيتين، لكنه فعلها عند انتخاب الرئيس نجيب ميقاتي تنفيذاً لوعد قطعه له بخفض سعر الدولار، إلا أنه لم يتمكن من الحفاظ على سعر للدولار يبلغ 14000 ليرة لأن حجم الطلب بسبب رفع الدعم عن المازوت صار أكبر. «ولا ننسى أن مستوردي المواد الغذائية يشترون الدولار من السوق الحرّة لتمويل شحناتهم سواء بالليرات التي سددها لهم مصرف لبنان أو بغيرها» بحسب ما يقول أحد المستوردين.
وفي حال استمرّ مصرف لبنان بالامتناع عن التدخّل في السوق في الوقت الذي سيتقاضى فيه المستوردون فواتيرهم بالليرة النقدية، فإن احتمالات ارتفاع سعر صرف الدولار تزداد. وربما ستزيد الضغوط على الليرة أكثر إذا رُفع الدعم نهائياً عن البنزين.

اشترك الآن: تعلم اللغة الإنكليزية في لبنان