إذا كانت المناورات تشكّل محاكاة لحروب مخطّط لها، أو مفترضة، فإن السمة الأبرز لمناورة جيش العدو التي بدأت الأحد الماضي، ولا تزال مستمرة، هي إقراره بأن الكيان سيتلقّى، في أي حرب، كمّاً هائلاً من الصليات الصاروخية التي تستهدف مناطق استراتيجية حسّاسة. فالمناورة تُحاكي حرباً شاملة في مواجهة حزب الله وإيران وساحات المقاومة في المنطقة، ويشارك فيها آلاف الجنود، وتشمل إجلاء السكان من جبهة المواجهة والتصدي لهجمات إلكترونية. يعني ذلك أن قيادة العدو السياسية والعسكرية وخبراءه والرأي العام يسلمّون بتحول الجبهة الداخلية، في أي مواجهة عسكرية واسعة، إلى جبهة قتال حقيقية، من دون أن يعني ذلك بالضرورة أن المناورة تؤشّر إلى حرب وشيكة أو حتمية ضمن المدى المنظور.لكن، من الواضح أن المناورة ليست مجرّد إجراء مهني تقليدي تقتضيه برامج أي جيش. بل هي حدث «غير تقليدي» في رسائلها ودلالاتها، خصوصاً أنها تتزامن مع أكثر من متغيّر إقليمي ودولي، تتخوّف مؤسسات العدو من أن تترك تداعيات على الواقع الإقليمي وعلى الأمن القومي الإسرائيلي. كما تشكّل محطة كاشفة لحجم المخاطر المتصاعدة على الأمن القومي الإسرائيلي. وتؤكّد المناورة الحقيقة المعروفة بأن رأس حربة المخاطر يبدأ بحزب الله ويتمدّد في ساحات محور المقاومة وصولاً إلى إيران. والدلالة الأخطر بالنسبة لكيان العدو، أن هذه المخاطر ليست مقدّرة على المديَين المتوسط والبعيد، وإنما قائمة فعلاً. والمعطى الأحدث الذي يلخّص هذا المسار أجمله طاقم «معهد السياسة والاستراتيجية في معهد هرتسيليا»، بقلم اللواء عاموس غلعاد. إذ اعتبر أن المنظومة الإقليمية تستثمر في بناء القوة والتعاظم، و(لذلك) تمتنع قدر الإمكان عن تفعيل القوة وخوض مواجهات تؤدي إلى تصعيد واسع. وعلى المستوى السياسي «تعمل القوى المعادية لاسرائيل على تعزيز العلاقات الثنائية بينها، وإنشاء قنوات تواصل، إزاء التحديات الداخلية التي تواجهها...».
استناداً إلى هذه الرؤية، تبدو مخاوف العدو واضحة من أن تؤدي الدينامية التي تشهدها بيئته الإقليمية إلى تغيير مكانته الاستراتيجية، ليس بسبب تراجع في قدراته العسكرية والتكنولوجية ولا في الدعم العسكري الأميركي المتصاعد، وإنما بسبب سرعة تعاظم قدرات محور المقاومة وعلى رأسه حزب الله، وما يترتب على ذلك من تبدل في معادلات القوة.
الحروب الخاطفة والحاسمة وبأقل الأثمان أصبحت من الماضي


في مواجهة هذا الواقع، يجهد العدو في استراتيجية مضادة ترتكز إلى عناصر عدة، أهمها رفع مستوى الجهوزية والاستعداد التي تشكل المناورات أحد أهم تجلياتها. إذ إنها تحاكي كل الأنشطة العملياتية التي يُقدّر أن تشهدها أيّ حرب مفترضة في الهجوم والدفاع، ويتم في ضوئها اختبار «المفهوم العملياتي» الذي طوَّرته قيادة جيش العدو.
على ذلك، فإن الأنشطة العملياتية التي تشهدها المناورة، والسيناريوهات التي تتم بموجبها، تؤكد هيمنة التشاؤم والسوداوية على مؤسسات التقدير والقرار الاستخباري والعسكري، وإقراراً بأن ما ينتظر إسرائيل في أي مواجهة كبرى يختلف عن كل ما واجهته منذ عام 1948. لذلك، يصبح مفهوماً إصرار جيش العدو على المناورات المتتالية التي يحاول من خلالها إعداد واختبار خيارات عملياتية تتلاءم مع حجم التهديدات التي يشخصها. إذ من الواضح أن كل تفصيل في المناورة يعكس تقديرات الجهات المختصة في كيان العدو. وبحسب رئيس أركان قيادة الجبهة الداخلية، العميد ايتسيك بار، جسّدت المناورة للمرة الاولى «الإدارة المشتركة بين سلطة الطوارئ الوطنية وقيادة الجبهة الداخلية مع شرطة إسرائيل» إلى جانب بقية المؤسسات ذات الصلة. ويعود ذلك إلى تسليم بالكمّ الهائل من الصواريخ الدقيقة وغير الدقيقة والمدمرة التي ستستهدف المنشآت الحيوية للكيان وعمقه الاستراتيجي. كما سيتم التدريب على إصابة صواريخ دقيقة لمصانع في منطقة خليج حيفا وهو تهديد تم عرضه على وزارة الأمن الإسرائيلية كسيناريو محتمل، وأكثر ما يُقلق كيان العدو، في هذا السياق، استهداف منشآت الأمونيا في تلك المناطق. ما يُشير إلى أن تهديد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله قبل سنوات باستهداف هذه المنشآت لا يزال حاضراً لدى جهات التقدير والقرار.

(أ ف ب )

أما الجديد في هذه السيناريوهات فهو تطبيق بعض العبر المستخلصة من معركة «سيف القدس» في أيار الماضي. إذ ستتضمّن المناورة، للمرة الأولى، مواجهة احتجاجات القرى والبلدات والأحياء العربية في فلسطين المحتلة، في تحدٍّ جديد يفرض نفسه على الأجهزة المختصة. إذ إن خطورة هذا السيناريو تنبع من إمكانية تزامنه مع حرب قاسية يواجهها الجيش كما حصل خلال المعركة الأخيرة ضد قطاع غزة.
خلاصة القول، يريد العدو من هذه المناورات تحقيق هدفَين في آن، الأول رفع مستوى الجهوزية العملياتية بما يتلاءم مع تصاعد المخاطر، وتوجيه رسائل محددة إلى البيئة الإقليمية التي تتغير بوتيرة متسارعة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تعزيز قدرة ردعه في مواجهة قوة ردع حزب الله، وفي مواجهة محور المقاومة ككل. لكن المفاعيل الردعية لأي رسائل عملياتية وغير عملياتية، غير مرتبطة حصراً بمن يوجه الرسائل، بل بنحو رئيسي بمن سيتلقّاها وكيف يتعامل معها، خصوصاً أن الردع حالة «إدراكية» ساحتها الوعي، وهو مفهوم متحرك يتأثر بمجموعة عوامل واعتبارات لدى طرفي المعادلة.
الأمر الآخر أن مناورات جيش العدو تنطلق من «سيناريوهات مرجعية» تؤكد إقرار قيادتَي العدو العسكرية والسياسية بأن طموحات الجيش بتطوير قدراته إلى المستوى الذي يُمكنّه من شن حروب خاطفة وحاسمة وفي أقل وقت مع أقل الأثمان، أصبح من الماضي وضرباً من ضروب الخيال. وهو معطىً كافٍ في دلالاته لتفسير سر الانكفاء الإسرائيلي حتى الآن عن شن عمليات عسكرية واسعة ضد لبنان، رغم كل الظروف التي يواجهها، وضد المنشآت النووية الإيرانية رغم تجاوزها للكثير من «الخطوط الحمر» الإسرائيلية، والتزامه بالقيود والضوابط التي فرضها محور المقاومة على السياسة العملياتية الإسرائيلية في أكثر من ساحة.