ثمّة كلام لا يخرج إلى العلن كثيراً في المشكلة القائمة بين السعودية ولبنان. لكنه أصبح حديث القوى السياسية والشعبية والدينية منذ أيام. فالظاهر في ما يجري صراع بين محورَين، عبّرا عن نفسيهما، كلّ على طريقته، مع السعودية أو مع إيران وحزب الله والحوثيين.الجانب الأول من المشكلة أن الوزير جورج قرداحي ليس منتخباً، ولا يأتي من قاعدة تمثيلية شعبية، بل من علاقات حزبية وسياسية صرف مع حزب الله وسوريا ممثلاً لتيار المردة. ومع ذلك، فهو آت عن المقعد الماروني في حكومة، كان أول سؤال طرح لدى توزيع مقاعدها: كيف قبل التيار الوطني الحر بإعطاء تيار المردة وزيرَين مارونيين فيها لو لم يكن أحدهما وديعة يقبل بها التيار؟ ومع إضافة مشكلة الوزير شربل وهبة، سابقاً، ومن ثم قرداحي وتغطية رئيس تيار المردة سليمان فرنجية له، وقبله موقف الوزير جبران باسيل من السعودية، يصبح الكلام الأكثر تداولاً في الوسط السياسي أن قياديَّين مارونيَّين ووزيرَين مارونيَّين هم واجهة الخلاف مع السعودية، ولو أن الأربعة ينتمون الى الخط نفسه بدرجات وخلفيات متفاوتة. ورغم أن الجميع يعرفون أن الخلاف ليس طائفياً، ولا هو خلاف القوى المسيحية مع السعودية، لكن حساسية ما يجري وخطورته هو أن الانتماء السياسي لا يعود وحده محور الحدث أو الخلاف مع أي دولة، بما في ذلك السعودية.
حزب الله، بما يمثل، على خلاف تام وواضح ومعلن مع السعودية، وأيّ صراع بينهما محكوم بنظرة كل منهما وبقاعدة متماسكة للطرفين تجاه الآخر. لكنّ القوى المسيحية تختلف عنه في تعاملها مع الدول العربية، والسعودية تحديداً. فهي، أولاً، لا تملك موقفاً موحداً منها، وثانياً، باختلاف نظرتها إليها إنما تختلف جذرياً في أسباب العلاقة السلبية أو الإيجابية معها. تاريخياً، لم يسجل المسيحيون أي موقف سلبي من السعودية، لا قبل الحرب ولا بعدها. الأمر لا يقتصر على مرحلة الستينيات والسبعينيات والازدهار المالي الذي عرفه المسيحيون الذين ذهبوا الى دول الخليج في مرحلة إعمارها، ولا على المساعدات التي أغدقتها على شخصيات وقوى بعد عام 2005 وزمن الانتخابات. هناك جانب يتعلق بدور السعودية في مرحلة المفاوضات والمؤتمرات الحوارية، وهو موقف لم يكن عدائياً تجاه القوى المسيحية في الحرب، وخصوصاً ًفي وجه الوجود السوري وتأثيراته في لبنان. وقد تكون مرحلة الرئيس رفيق الحريري بعد الطائف، هي التي اختزلت الدور السعودي وجعلته المتحدث شبه الوحيد باسمها، وخصوصاً لجهة تطبيقه الطائف في الشكل المشوّه الذي طبق به، مع ما تركه ذلك من سلبيات في النظرة إليها.
سحب البطريرك أيّ غطاء «مسيحي» عن الأزمة مع دول الخليج


بعد عام 2005، تعمّقت الخلافات بين المسيحيين، بما في ذلك نظرتهم حيال العلاقة مع السعودية دون غيرها من دول الخليج. إذ جمعت السعودية بشخصيات سياسية من قوى 14 آذار أو كانت تدور في فلكها علاقات متينة. والكلام هنا لا يتعلق بمجموعة سياسيين وإعلاميين من أصحاب المصالح والتزلّف والشعر التكسّبي، بل ببناء قواعد ثابتة في تعاطي الرياض مع سياسيين مناهضين للدور الإيراني في لبنان، أو مستقلين، نمّت علاقة ثقة معهم. وإذا كان من الواضح أن القوات اللبنانية استعادت علاقتها بالرياض، كما حزب الكتائب، وأدى تفعيلها الى حضور إقليمي أكثر عمقاً من ذي قبل على مستويات معنوية ومادية، فإن التيار الوطني ذهب في اتجاه مغاير وواضح في تعبيره عن معارضته. لا تجتمع «مشرقية» التيار مع العلاقة الخليجية، لكن تغيّر نمط العلاقة بين التيار والسعودية، تبع تغيّر العلاقة مع الرئيس سعد الحريري إبان التسوية الرئاسية، ومع الدور الذي قام به وزير الخارجية جبران باسيل في تلك المرحلة الظرفية والقصيرة العمر. فتأرجح العونيون بين كلام عن تغطية السعودية لتنظيمات إسلامية أصولية، وبين استقبالها عون وباسيل، الى أن انفجرت في أكثر من نقطة، وكلام مسؤولين من التيار عن السعودية لا يحتمل تأويلات، الى أن غطى باسيل خروج وهبة من الخارجية بأقل الأضرار الممكنة. أما فرنجية، فلم يكن موقفه من السعودية بالحدّة التي عبّر عنها في بكركي، أو في تمسكه بعدم استقالة الوزير المعني، وخصوصاً أنه كان يتمتع بعلاقات تاريخية مع الرياض، من أيام جدّه الرئيس سليمان فرنجية، واستمرت متفاعلة الى وقت قريب تتداخل فيها المصالح السياسية والخاصة.
في الأزمة الراهنة، حاولت بكركي إعطاء صدقيّة لتحركها في الدفع في اتجاه استقالة الوزير المعني، فغطى البطريرك مار بشارة بطرس الراعي موقفه تجاه السعودية التي زارها، وسحب بذلك أي غطاء «مسيحي» عن الأزمة مع دول الخليج، بمعنى حصرية الولاء الحزبي لأصحاب المشكلة وليس الانتماء الديني. وهو بسعيه الى إشهار موقفه، وضع رئيس الجمهورية ميشال عون بوصفه أعلى سلطة رسمية، وأعلى منصب ماروني، في منزلة ثانية، إذ لا يزال موقع عون « حيادياً» لا يشبهه ولا يشبه مواقفه النارية في قضايا أقلّ خطورة وتأثيراً من هذه القضية، بعدما وصلته رسالة فرنجية ومن بكركي تحديداً. لكنّ المنحى الذي ستتّخذه الأحداث وتطورات الخلاف، بقدر ما سينعكس على لبنان ككل، سيأخذ منحى أكثر تأثيراً على واقع القوى المسيحية وقاعدتها في لبنان والخليج. وهو، هنا، لا يحتمل تأويلات وتبريرات، ولا سيما حين يصبح موقع وزير محسوب على المسيحيين والموارنة، متقدماً على موقعَي بعبدا وبكركي، بكلّ ما يمثلانه، في قضية بهذا الحجم.