فيما عاش التلامذة وأهاليهم سنتين من «المعاناة»، نجا تلامذة التعليم المنزلي من «تبعات» التعليم عن بعد وتأثيره في مسارهم التعليميّ. هؤلاء اعتادوا، حتّى قبل جائحة كورونا، أن يدرسوا في البيت مع والدَيهم أو أحدهما. إلاّ أنّ «نجاعة» التعليم المنزليّ لا تنحصر في السنتين الأخيرتين، فتجارب «هوم سكولينغ» في لبنان على العموم، أثبتت نجاحها من خلال نتائج التلامذة «التي لم تكن أقلّ من مستوى نتائج تلامذة المدرسة، بل بالمستوى نفسه أو أفضل. وبعضهم نال مراتب أولى في الامتحانات الرسمية، إلى جانب مهارات مختلفة»، بحسب الباحث والمتخصّص في المجال التربوي والإداري علي نذر.بدأت إحدى الأمهات، التي رفضت الإفصاح عن اسمها، بتعليم أولادها الثلاثة منزليّاً قبل 18 سنة، فيما كانوا يجرون الامتحانات الفصلية في مدرسة خاصة لمنحهم الشهادة. ابنها الكبير «تفوّق فأعفته المدرسة من امتحان نهاية العام، كما نال المرتبة الخامسة في الامتحانات الرسمية، وحصل على منحة تفوّقٍ في الجامعة». الأم تشير إلى أنّ أبناءها لم يحتاجوا «أكثر من ساعة ونصف ساعة للدرس يوميّاً في الحلقتين الأولى والثانية، و4 ساعات للحلقتين الثالثة والرابعة»، ما أتاح لهم «تنمية مواهبهم والاستمتاع بهواياتهم. وجعلَهم يعتادون أمور الحياة اليومية مثل شراء الأغراض والقيام بأعمال المنزل وإنجاز المعاملات الرسمية في الدولة، عكس تلميذ المدرسة الذي يغرق في الدرس طوال اليوم».
لكنّ هذا النوع من التعليم ليس مشرّعاً أو معترفاً به، وليس موضع متابعة وتنظيم من المعنيين في الدولة، على رغم أنّه مشرّع في دول مختلفة حول العالم، ونسبة الأهالي الذين يختارونه طوعاً تزداد يوماً بعد آخر. فالبعض يعتقد أنه «ليس ضرورياً وضع الطفل في عجلة القولبة الثقافية المحكمة التي تعمل من أجل أغراض السياسات العامة، وفق خطة مرتبطة بأهداف اقتصادية بعيدة المدى وربما سياسية»، كما تقول الأستاذة المحاضرة في كليّة التربية في الجامعة اللبنانية مريم رعد، «ولهذا السّبب جرى تشريعه في أوروبا والغرب بشكل عام».
أمّا أسباب عدم تشريعه في لبنان، فيذكر نذر أنّ التعليم المنزلي يحتاج إلى مناهج معينة وآلية واضحة المعالم وطريقة متابعة وتقويم خاصة، ولا مانع عند وزارة التربية بالسعي لإيجاد الآلية المناسبة، لكن «السيستم» الّذي ينظّم هذا النوع من التعليم «هو ما يفرمل المشروع، إضافة إلى عدم التنسيق بين الوزارات في ما يتعلق بالتعليم المدرسي، وغياب الإحصاء الرسمي للتلامذة، لجهة معرفة العدد الدقيق للمتخلّفين عن المدرسة».
ثمة من لا ينصح بالتعليم المنزلي لحاجة التلامذة إلى جو آمن ومنفتح


يحتاج التعليم المنزلي إلى «ذهنية تربوية تقبل به»، كما يقول عضو لجنة التربية النيابية النائب إدغار طرابلسي، «فبينما الولايات المتحدة وغيرها من الدول تعترف به منذ عقود، لم نستطع في لبنان أن نتحول إلى التعليم الرقمي أو عن بعد»، مضيفاً أنّه طرح الفكرة في نقاش لتشريع التعليم عن بُعد، لكنها لم تكن فكرة أساسية، ولم تأخذ مسارها إلى التشريع بعد، مع العلم أنّ ذلك «دونه صعوبات كبيرة». وأبدى طرابلسي اهتمامه بالتواصل مع الأهالي والمتخصصين من أجل تطوير الفكرة وتحويلها إلى اقتراح قانون.
وفيما يرى البعض أن هناك ضرورة لتشريع التعليم المنزلي في لبنان، لا سيما في ظل الظروف الحاليّة، وما يمكن أن يوفّر على الأهل من تكاليف التنقل من المدرسة وإليها، ترى الاختصاصية في الطفولة المبكرة فاديا حطيط أنّ «المُلحّ والأهمّ هو تأمين تعليم رسمي يوفر شروطاً ملائمة، ويعطي جميع الأولاد فرصاً متكافئة. ففي التعليم العام يمكن للدولة أن تراقب، وأن تصل من خلال الأطفال إلى الأسر، وتُدخل قيماً جديدة نحتاج إليها، مثل المواطنة، وخصوصاً في مجتمع متشرذم كالمجتمع اللبناني». ولا تنصح حطيط بالتعليم المنزلي «وإن كان يمكن التساهل مع مرحلة الطفولة المبكرة إذا كانت الظروف العامة ملائمة، لكننا تربوياً نفضّل أن يكون التلامذة لا سيما في مرحلة الروضة في المدرسة، يختلطون مع أترابهم في جو آمن ورحب ومنفتح وواسع»، لأنّ هناك الكثير من الفرص التي لا يؤمّنها التعلم في المنزل. «وقد تكون الأسرة تقليدية وعقلها جامداً، فيتعلّم الطفل قيماً سلبية. بالتالي لدينا خطر في أن يبقى الطفل في بيئة منغلقة، لا يعرف الآخر ويعتبره غريباً ومكروهاً».
في السياق، تؤكّد رعد أنّ التعليم المنزليّ ليس حرّاً بالمطلق، وأنّ الدول التي شرعته وضعت له منهجاً، وتعمل على تزويد الأهل بالكفايات اللازمة، «وهناك محطات يُختبر فيها الأطفال للتأكد من نوعية التعليم الذي يتلقونه، لأنه يمكن أن يكون التعليم المنزلي هامشاً لتربية الأطفال على قيم لا تتوافق مع القيم الاجتماعية العامة». ووفقاً للنتائج التي توصّل إليها نذر في بحثه حول التعليم المنزلي، لا يمكن تعميم «هوم سكولينغ» على الجميع، لأنّه يرتبط بقدرات الأهل وبأسلوب تعاطيهم.