لولا اعتبارات العنوان وارتباط هذا الأخير بالمضمون وتأثيره عليه، لكان يُمكن لهذا المقال أن يكون أرقى قليلاً. لكنّ واقع الحال، الموسوم بصنع الرداءة والاحتفاء بها، يفرض قولاً يليق بالمقام. فتصاعد الاستثمار الداخلي والخارجي الوضيع والمجرم في دماء شهداء المرفأ، إلى همروجة «الدفاع» المتسلسل، المدفوع الثمن، عن «قاض» يبدو أن همّه الأساس التحايل الموجّه لخطف الأضواء المصطنعة بعيداً عن قوانين الضوء وعلومه، إلى مشاهد الطيونة السوداء التي حملت بصمات القاتل الطليق سمير جعجع، وصولاً إلى انحطاط «الخصوم» وغرائزية قولهم... كلها تفرض كلاماً مختلفاً.لذا، نستميح القرّاء العذر، ونعدهم بالامتناع، قدر الإمكان، عن الهبوط بهم إلى سوية الكائنات التي تواصل رقصها المجرم على دماء ضحايا المرفأ، وبعدها دماء شهداء وجرحى مجزرة الطيونة ـ عين الرمانة، والاستثمار فيها كأحقر وأبشع ما يكون الاستثمار. فهذه الكائنات التي نشأت وسط الأقدام الأجنبية واحترفت لعق البساطير والأقفية تراهن اليوم، وبعدما اتّضحت معالم النيّات الإجرامية لمشغّليها، على عيش وهم قلب المشهد ومعه الموازين بالاستناد إلى آمال زائفة ووعود لن تتحقق، وإن تحقّق أي منها وهذا من سابع المستحيلات، فبكلفة باهظة لن يكونوا بمنأى عن تحمّل تبعاتها. فالعبث بعيش الناس على ما فعل حزب المصرف الأخطبوطي، أو بأرواحهم على ما يحاول مخلبهم المجرم الطليق ومشغّلوه وباقي الشركاء المكتومي الأسماء المعلومي الملامح والسحنات، لا يمكن له أن يمرّ، خصوصاً أن المعنيّين بالناس، أي أهل المقاومة، قد قرّروا، كعهدهم في المبادرة والطليعيّة، تولّي أمر المعالجة المناسبة والدقيقة بما يمنع تجدّد الحرب الأهلية ويحمي البلد ويردّ الأذى الذي يُراد إيقاعه بعموم اللبنانيّين، وأوّلهم ما تبقّى من المسيحيّين الذين يعمل القاتل على استرهانهم بالخوف والعصبيات المقيتة لتحويلهم إلى متاريس قنص وقتل وتفجير... بأمل الظفر بالسلطة واستعادة التسلّط الذي ذاق اللبنانيون وخصوصاً المسيحيّين طعمه القاتل زمن الحرب الأهلية.
فأمام التخلّي الرسمي وإذعانه الفاضح للضغوط الخارجية، وتواطؤ بعضه، وغياب العقل، وجنون القاتل الطّليق وعطشه إلى سفك الدماء، لا يبقى إلا المقاومة. وهل هناك من هو أجدر منها في تولي المهمة؟ فالمقاومة التي رفعت رايات كرامة وعزّة البلد، وحمت وتحمي حدوده الجنوبية والشرقية بفائض التضحيات، ولقّنت مشغّلي القاتل أنفسهم الدروس بدءاً من ساحات الجنوب وقراه ومدنه إلى مرتفعات السلسلة الشرقية إلى فلسطين وسوريا... تعرف الطريق الموصل إلى إنقاذ البلد مما يُعدّ له في عتمة السفارات وغرف القتل المتعدّدة الجنسيات.
شبّه زميلنا رئيس التحرير حفنة الوشاة والمرتزقة العاملين بتوجيهات وأوامر الخارج المتربّص بـ«صيصان السفارة». والوصف على صحّته ومطابقته لواقع حالهم التعس الذي يعجزون عن مداواته إلا بمزيد من الارتهان والذيلية، بدا شديد التهذيب ولا يُحيط بحقيقة ما هم عليه أو فيه. فهؤلاء الذين تجنّدوا للقيام بأقذر الأدوار وأكثرها خِسّة، ويجمع بينهم، على اختلاف منابتهم السياسية وتناقضها الاسمي، أنهم تجّار دم ومقاولو فتن ومحترفو قتل وصنّاع كذب وسماسرة قضايا... وقد خلصنا بعد البحث والتقصّي والتدقيق ومراجعة التاريخ وعقد المقارنات إلى الإحاطة بحقيقة أنهم ليسوا أكثر من مطايا، بل ومطايا عرجاء. والمطيّة بحسب القاموس من الدّواب: ما يُركب ويُمتطى كالبعير والناقة (للمذكر والمؤنث).
ولمزيد من الشرح فإن المطايا أنواع، من بينها ذاك التقليدي الذي يحتاج إلى من يمتطيه ليتحرك أو يتصرف، ونوع ثان ذاتي القيادة، بإمكانه التصرف أو التحرك مكتفياً بالتعليمات التي عادة ما تكون صارمة، ويتقدمون على الأوّلين بكونهم «النخبة»، ونوع ثالث يقع بين النوعين وهذا يُحرك عن بعد. وكما الحياة السويّة التي لا تخلو من التنافس، فإن المطايا بدورها تتنافس في ما بينها على إرضاء الممتطي بمعزل عن اختلاف هويته أو جنسه.
المشكلة اليوم ليست في دور المطايا ولا في ما تسعى إليه. المشكلة تكمن في تصديقها، ومعها ممتطوها، أن بإمكانهم النجاح في ما فشلوا فيه سابقاً.
إننا، اليوم، في خضم حرب المطايا للفوز برضى الممتطين الحقيقيّين القابعين في واشنطن ولندن وباريس، وتعظيم مكاسبهم التي قد تأتي على شكل مدفوعات نقدية أو مناصب أو... و«الحوادث» التي تقع وينجم عن بعضها ضحايا تعود بعض أسبابها إلى حرب المطايا في ما بينها لنيل التربيتة المطلوبة وتالياً تسييدها على المطايا المنافسة.
الممتطي هو التعريف الدقيق لما يُسمى بالنّاشط (تسمية حديثة للعميل!) الذي يظن أنه قادر، بدعم وتمويل صنّاعه، على مواجهة المناضل والنيل منه ومن قضيّته، وهو ما لم يحصل في كل بقعة حضر فيها المناضل، من لبنان إلى فلسطين إلى أميركا اللاتينية مروراً بأفريقيا... فالمناضل الذي دأبت الدعاية على شيطنته وزعمت بانقراضه، فاجأها كما لم تفاجأ في حياتها.
وجود المناضل وفعالية حضوره التي تؤرق العواصم المعادية هي الأساس في استمرار عمل المطايا، وإلا لما كان هناك أصلاً من حاجة إلى خدماتها، وهو ما يعمّق من مأزق هؤلاء الأخلاقي قبل السياسي.