لم تكن دعوة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله إلى متابعة ما يقوله الإسرائيلي عن كلفة أي حرب مباشرة ضد حزب الله، وعن الحرب الأهلية، إلا تعبيراً عن حقيقة يتم التداول فيها رسمياً في كيان العدو، وفي معاهد الأبحاث وعلى ألسنة معلّقين مختصّين أو بأقلامهم. إذ لا يخفى حرص قيادة العدو على تجنّب مواجهة واسعة مع حزب الله، لتفادي سيناريو تعرّض جبهته الداخلية لكمّ هائل من الصواريخ لم يتعرض لها منذ قيام إسرائيل عام 1948، وأن البديل استهداف المقاومة من خلال جبهتها الخلفية (بعد الفشل عبر البوابة السورية)، وبعناوين وأساليب متعدّدة. ومن مقارنة ما يجري على أرض الواقع، مع ما يطلقه هؤلاء من مواقف ويدعون إليه من خيارات، يمكن تلمّس علاقة العدو بالمخطّطات التي تستهدف المقاومة وموقعه منها.لا تشكل هذه الصراحة والمباشرة في التعبير عن الخيارات البديلة أي مفاجأة، بل هو أمر طبيعي في السياق الإسرائيلي، وحتى الأميركي. فكلاهما لا يُخفيان في كثير من الأحيان الخطوط العامة لمخططاتهما ضدّ حزب الله... ولا يحتاج الأمر سوى إلى الاطّلاع والمتابعة وقدر قليل من التفكيك والربط لتتضح معالم الصورة كاملة.
ضمن هذا الإطار، لم يكن تناول رئيس وزراء العدو نفتالي بينت لمجزرة الطيونة (إلى جانب تطورات العراق) في جلسة الحكومة إلا تعبيراً عن مستوى حضور مستجدّات هاتين الساحتين لدى أجهزة التقدير والقرار في كيان العدو. ولم يكن اختياره الحديث عن هذه المجزرة والترحيب بها، إلا انعكاساً لرهانات إسرائيل على مواجهة حزب الله في الساحة الداخلية اللبنانية، خصوصاً أنه وضعها في سياق مساعي قوى لبنانية للتخلص من المقاومة و«النفوذ الإيراني». ولذلك رأى فيها مدخلاً لما يطمح إليه في مواجهة حزب الله (بتعبيره التحرّر من حرس الثورة الإسلامية)، مؤكداً أن الإسرائيليين يتابعون التطورات والاتجاهات بهدف التخلص من «النفوذ الإيراني» الممثَّل بحزب الله وفصائل المقاومة في العراق.
في السياق العام، شكَّل موقف بينت امتداداً للمواقف الرسمية التي تناول من خلالها القادة الإسرائيليون تطورات المشهد اللبناني (والعراقي أيضاً) منذ نحو سنتين. بدأ هذا المسار منذ وصف سلفه بنيامين نتنياهو مسار الأحداث الذي بدأ في 17 تشرين الأول عام 2019، بأنه «هزة أرضية»، بما عكس حجم الرهان الإسرائيلي على التطورات الداخلية لإعادة إنتاج واقع سياسي وأمني يدفع بيئة المقاومة للانقلاب عليها، وإنتاج سلطة سياسية تملك فيها الولايات المتحدة سيطرة مطلقة، والانتقال إلى مرحلة أخرى من المخطط الذي يستهدف المقاومة... على أمل أن تترتّب على ذلك إعادة إنتاج بيئة إقليمية مجرّدة من عوامل القوة تمهد الطريق أمام تكريس الهيمنة الأميركية على لبنان والمنطقة.
المقاربة الإسرائيلية للمجزرة تشي بأن محاولات استهداف المقاومة ستتواصل بأساليب متنوّعة


لكن ما ينبغي الالتفات إليه، أيضاً، أن المواكبة الإسرائيلية للتطورات اللبنانية في السنتين الأخيرتين، لم تقتصر على المستوى السياسي ومعاهد الأبحاث، وإنما شملت الأجهزة الأمنية، إذ كشفت تقارير إسرائيلية أنه «في جميع المحادثات السياسية والأمنية التي تجريها إسرائيل مع أميركا وفرنسا ودول أوروبية أخرى، كانت تُطرح مسألة لبنان». وضمن هذا السياق، تم الدفع بشكل متعمّد نحو الانهيار، رغم أن الأزمة المالية والاقتصادية منشؤها داخلي. لكنّ المفاجأة التي صدمت الجهات المعادية للمقاومة أن بيئتها صمدت وحافظت على تماسكها، رغم معاناتها أيضاً، قبل أن تتلقّى هذه الجهات صفعة مدوّية عبر معادلة الردع عبر البحار التي ظلَّلت سفن المحروقات من إيران إلى سوريا فلبنان، والتي غيَّرت الدينامية السياسية في اتجاه مغاير لما كان مخطّطاً له بمعنى من المعاني. لكن، إسرائيلياً، شكّل هذا السيناريو ترجمة للسيناريو الذي حذّرت منه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية قبل أشهر من تحوّل حزب الله والجمهورية الإسلامية إلى منقذين للشعب اللبناني على خلاف المخطّط الذي يتم تنفيذه.
هكذا، يصبح واضحاً أن مجزرة الطيونة أتت - موضوعياً - بعد فشل محاولات دفع بيئة المقاومة للانقلاب عليها، ومساعي عزل حزب الله وإخراجه من مؤسسات السلطة السياسية بهدف تطويقه، تمهيداً للانتقال إلى المرحلة التالية من المخطط. وأيضاً بعد فشل مخطط الانهيار الذي كانت الآمال بأن يُلقي على المقاومة أعباء تقيّدها، وتوفر إمكانية ابتزاز لبنان وشعبه من أجل الخضوع للمطالب الأميركية – الإسرائيلية.
استناداً إلى هذا المسار، لم يكن عابراً أن يسارع رأس السلطة السياسية في كيان العدو للدخول على خط المجزرة كاشفاً عن الفرص التي يراهن بأن يوفرها تطور الأحداث الدموية. ولدى التدقيق في ما أدلى به بينت، يمكن تلمّس رؤية العدو الرسمية لما حدث، وموقعه من الاستراتيجية الإسرائيلية العامة في مواجهة المقاومة. فهو لم يتعامل مع المجزرة على أنها حدث عابر، بل ترجمة لخيار مواجهة المقاومة في لبنان. وبتعبير بينت الجهة التي ارتكبت المجزرة هي «قوى، ببساطة، استاءت من سيطرة النفوذ الإيراني»، واصفاً ما جرى بالضربة القاسية التي تلقّاها حزب الله. وكان واضحاً تعمّد بينت أن يُعبِّر عن المقاومة بـ«النفوذ الإيراني» ترجمة لاستراتيجية إعلامية تحاول أن تنزع عنها صفة الدفاع عن الوطن، وهو ما تردّده الجهات المعادية للمقاومة في لبنان في تعبير عن مستوى التطابق بين الطرفين. لكنّ المؤشر الأهم في سياق مجزرة الطيونة، تمثَّل في التعبير عن الأمل بأن «ينجح الشعب اللبناني في التحرر من حرس الثورة الإسلامية وبناء مستقبل أفضل». وليس ذلك إلا تأكيداً على أن إسرائيل ترى في هذه المجزرة محطة في سياق، لا حدثاً معزولاً عن السياسات التي تستهدف المقاومة في لبنان. وإلى كونها مدخلاً لخيار بديل تعمل عليه إسرائيل، وعبر الولايات المتحدة، للدفع نحو إنتاج واقع أمني وسياسي يفرض على المقاومة أن تدافع عن نفسها على أمل أن يؤدي ذلك إلى حرب أهلية تستنزف المقاومة وتشغلها.
ليس خفياً أيضاً أن موقف المقاومة فوَّت على العدو هذه الفرصة وأحبط حتى الآن رهاناته. إلا أن المقاربة الإسرائيلية لهذه المحطة - المجزرة تشي بأن محاولات استهداف المقاومة ستتواصل بأساليب متنوّعة، ما دامت تمثل خياراً بديلاً عن المواجهة العسكرية المباشرة التي تتجنّبها إسرائيل حتى الآن.