ليس لعاقل أن يجادل في حقيقة فشل النظام السياسي اللبناني وعجزه وهشاشته وعبثية وإجرامية الاستمرار في الدفاع عنه أو التمسك به، على نحو ما تفعله منظومة العائلات (المتصاهرة) المالكة له. الحاجة الماسّة والملحّة إلى كنسه وتجاوزه مصلحة إنسانية صافية قبل أن تكون لبنانية وعربية. فعجزه البيّن عن الديمومة الذاتية وأكلافها الدموية، لم تعد وجهة نظر، بل حقيقة صارخة تفقأ العيون وتجعل من استمراره نحراً للحاضر وقتلاً للمستقبل وإجهاضاً للأمل ووأداً له، بل وخسائر في الأرواح الإنسانية لا تعوّض، على نحو ما شهدنا ونشهد عند كل استعصاء سياسي أو اجتماعي غالباً ما يقود، بدفع من نادي العائلات الحاكمة المستترة بالطوائف والمذاهب والسفارات... إلى حروب كبيرة وقودها الناس، تلتهم الأرواح وتدمّر العمران ولا تنتهي إلا بالعودة إلى الأصل الناظم: التوافقات الفوقية (اقرأ: الحروب الصغيرة أو الباردة) التي تستبطن الاستعداد لجولات أكبر وأشمل كلما تهدّدت مصالحها العليا أو مصالح من تُمثل. فدوام اشتغال هذا النظام والمستفيدين منه هو في استمرار الحروب الصغيرة التي تضمن استمرار الانقسامات المشوّهة واصطفافاتها القبلية، وتالياً استمرار الاستئثار بالريوع والعوائد. والتنازعات المضبوطة الحاكمة لهذه الحروب الصغيرة هي من لوازم الديمومة التي ثبت بالملموس الطائفي والمذهبي الدموي نجاعتها في الحفاظ على مغانم المتصاهرين الثابتة من بشر وحجر، يعينهم في ذلك جيش القلانس والعمامات.والأصل في عجز هذا النظام وهشاشته يكمن في زيف هويته المخترعة الفاقدة للحياة إلا عبر القرابين البشرية القسرية التي يفرضها المتصاهرون الحاكمون، وتقدّمها المجاميع الممسوكة بأريحية وامتثال لا تفسير منطقياً له. فهذه الهوية وطبيعتها الموميائية، وبمعزل عن بقية الأسباب والمسببات، هي الأساس الحاضن والمولّد لكل الأزمات الدورية والحروب الموسمية. الوقوف العابر، حتى لا نقول التدقيق في أي من هذه الأزمات أو الحروب، من شأنه أن يفضح جبل الأكاذيب «البلدية» التي تصرّ، وعلى رغم كمّ الوقائع ووفرة الإثباتات المعاكسة، على محاولة تبرئة ساحة النظام «القائم» من مسؤولياته التي لا لبس فيها عن كل الكوارث والمصائب التي يعيشها سكّان هذه الرقعة المسلوخة عن أصل طبيعي لا غنى لها عنه. وهنا تلعب المكابرات المستمدّة من ترّهات شيحوية منافقة دوراً تضليلياً يسمح بنسبتها إلى تأثيرات الخارج المتآمر أو تدخلاته الخبيثة، وكأننا وحدنا ومن دون العالم كله المتفاعل في ما بينه، سلباً وإيجاباً، من يعيش هذه التأثيرات التي لا يوجد في العالم من يشذّ عنها. فالحروب الموسمية الكبيرة وما يتوسطها أو يتخللها، ويحدث في أحيان كثيرة أن يرافقها، من حروب دورية صغيرة متواصلة الاشتعال هي الأصل المؤسس وسمة النظام اللبناني وتاريخه. وما الهواجس الوجودية التي تنتاب البلد وساكنيه عند كل عاصفة ولو كانت مناخية، حتى لا نقول سياسية أو اجتماعية، وتأثيرها المباشر على ترنّح المرتكزات التي يقوم عليها، إلا واحداً من الأدلة التي تعكس حقيقة هذا العجز والإفلاس والفشل، والذي بلغ حداً بات يستحيل معالجته بالتسويات الفوقية المستوردة من خارج تحكمه المصالح أو مداواتها بالوطنيات التي لا أساس لها، ولا حتى بالزجليات الرحبانية التي أفرغها المتصاهرون من مضامينها ووظفوها في خدمة اختراعهم القاتل، (أليس هذا ما فعله رفيق الحريري عندما اقتنص الرأسمال الكبير الذي تمثله السيدة فيروز ووظفه في أمسية «سوليدير». وهي الأمسية التي كانت بمثابة فخّ لها ولجمهورها وشهدت إطلاق وترويج كذبة «الإعمار» وجريمته التي محت جزءاً معتبراً من ذاكرة الناس وكرست التباعد الاجتماعي والمعنوي والنفسي والطائفي الذي كانت رسمته الحرب). بل أن الزجليات هذه التي فقدت مفعولها العاطفي «البليد» صارت بمثابة دليل عكسي على حقيقة الكذبة الأصلية ومدى إجرامها. وباتت عاجزة حتى عن توفير المتنفس المتوهّم للذين يضيق بهم واقع الجريمة المتمادية، وهم أغلبية الأفراد والجماعات التي تتناقض مصالحهم وتطلعاتهم مع نظام لا يملك إلا أن يتعيّش على دمائهم ودماء أبنائهم وأحفادهم من بعدهم.
أسباب انفجار النظام أو تشظّيه الملموس كامنة فيه، وفي حقيقته التلفيقية التي نعرفها جميعاً، لكننا، ولضعف غير مبرر، ولعجز لا تفسير له، ولمصالح وأنانيات مجهرية نحاول تأجيل الاعتراف بها، مع علمنا بالأكلاف الكبيرة المترتبة على هذا النكران: ضحايا بعشرات الآلاف وخسائر بالمليارات وهجرة للأجيال... ويمكن الإضافة بأنه لولا الأوكسيجين الخارجي الراعي والألاعيب الداخلية لتبدد الاصطناع اللبناني الذي يمثله النظام السياسي الهجين من فوره، ولظهرت حقيقته العارية، أو الصادمة، لعاشقي التبولة والحمص والعرق أولاً وقبل غيرهم، بوصفه جثة متحللة غير قابلة للحياة. وهذا، قبل الخوض في حديث الإصلاح المستحيل ناهيك بالديمومة. فالمصالح الخارجية المستمرة التي رعت اختلاقه وتوليده ومن ثم تسييده مسنودة بالألاعيب البلدية، هي التي حالت وتحول دون التسليم بحقيقة فشله أو سقوطه السابق على الصدام الأهلي الأول الذي أوجب اختراع «الميثاق الشفهي».
على هذه الخلفية المرعية داخلياً وخارجياً تقع الأحداث وتصدّر المواقف وتتشكّل الاصطفافات وتتمحور الصراعات وتنشب المعارك وتشتعل الحروب ويسقط الضحايا وتُستولد الزعامات وتشتد العصبيات وتقوم التسويات... وهذه مجتمعة تشكل العصب الذي يخدم النظام ويطيل في عمره بالحسم من أعمار ضحاياه من الناس. وعلى هذه الخلفية الواضحة والجلية يمكن قراءة الواقع اللبناني الراهن بكل إفرازاته الخبيثة والتضليلية من نوع الحياد والفيدرالية... وغيرها من ترّهات تزيّن استمرار الجريمة ودوامها.
هنا أصل الموضوع، وأصل كل ما أصابنا ويصيبنا. لذلك، فإن مسؤولية التخلص الكامل من النظام القائم والتصدّي لتماديه في الإجرام الدوري مسؤولية كبيرة ويجب أن تكون لها الأولوية المطلقة على جدول أعمال القوى الحريصة، وبالذات قوى المقاومة التي لم تبخل بالدماء. وعليه، فالمطلوب من كل حريص على الناس ومحب لهم أن يعمل لها لأنها السبيل الوحيد الضامن للكرامة الإنسانية، وهو ما يحتاج إلى بلورة التعاضد العابر للترسيمات أو الاختلافات المصطنعة وحشد الطاقات وتوظيف العقول وحفز الهمم لتحقيق ما تأخرنا عنه. والمباشرة في كنس هذا العفن وسحق تلك الديدان المتصاهرة التي لا تعرف وطناً مهمة ثقيلة وأثقل من أن تنجز إن لم يبادر المواطنون والمواطنات الحقيقيون إلى لعب دورهم ولو لمرة واحدة. إنها مهمة كل مناضل وشريف وراغب في البقاء والعيش الكريم الحرّ واللائق.
أصحاب النظام (عائلات عابرة للجغرافيا وبلا جذور انتخبها الغرب الفرنسي وبعده الأميركي لرعاية مصالحه) يعيشون ضيقاً ناجماً عن ضيق رعاتهم من تهاوي مشاريع استتباع المنطقة وإلحاقها، ومن تنامي قدرات أهل المنطقة ومقاوماتها وانتصاراتها التي تهدّد أسس هيمنتهم السياسية والاقتصادية والثقافية، لذلك فإن مقاومة لبنان، بوصفها رأس الحربة العربية التي ضربت عنق الإسرائيلي وتقترب من إنجاز مهمة كنسه، هي الهدف الأول المعلن على أجندة تحالف غربي - عربي عريض يريد النيل من الظاهرة الأنبل في تاريخنا العربي المعاصر.
تحريك المدعو سمير جعجع لتنفيذ جريمته يأتي من ضمن المهمة نفسها التي قضت بتحريك وليد جنبلاط في كمين شويا، وقبلها في كمين خلدة (نفّذته مجاميع العصابات وقطاع الطرق المرعية من السفارة السعودية، وهي مجاميع وقطعان معروفة بامتهان اللصوصية وبيع الخدمات السوداء لكل من يدفع وينتحل متزعموها صفة شيوخ عشائر! وهي القطعان نفسها التي سبق للمخابرات السورية أن احتضنتهم قبل انقلابهم عليها مع الانسحاب من لبنان. واليوم، يصنفون أنفسهم في خانة الجنبلاطية السياسية ومن المعلوم أنهم جربوا ابتزاز المقاومة مالياً). ومجزرة عين الرمانة - الطيونة التي حملت بصمات هذا القاتل المتسلسل هي الحادث الأكبر والأخطر منذ تاريخ إعلان وقف الحرب الأهلية في تسعينات القرن الماضي مع ما حمله هذا الإعلان من التباسات وجرائم لاحقة لا تقل عما ارتُكب خلالها. فكل ما سبقها من أحداث أو صدامات، صغيرة أو كبيرة، بقيت تحت السقف السياسي الذي أرسته معادلات «الطائف»، ولم تمثل أي تهديد جدّي للسلم الأهلي القلق، والذي مثل رأسمالاً فعلياً وسقفاً لكل الخلافات والانقسامات.
جريمة الطيونة - عين الرمانة هي التهديد الجدي الأول للسلم الأهلي. والمسؤولية تقتضي الإسراع في التعامل مع هذا التهديد بما يضمن اجتثاثه من جذوره العميقة قبل تناميه بفعل الخزائن السعودية المفتوحة.
مسؤولية جعجع المباشرة وجرأته المستجدة في الإقدام بما يتجاوز قدراته الذاتية ويتخطى ذكاءه المتواضع، وهو بالمناسبة جد محدود، بدليل سيرته المجنونة الطافحة بالسقطات السياسية، وفشل تلك «العسكرية» (والأصح أن يقال الإجرامية)، تشي بضلوع أطراف وجهات محلية تضافرت في ما بينها وبعضها يحتل مواقع رسمية تولّت تشجيعه، وهناك من يتحدث عن أنها قدمت له الضمانات الخطية لتنفيذ الجريمة وحمايته بعدها. تناقض البيانات الرسمية وتضارب رواياتها واحداً من المؤشرات الخطيرة التي تجدر متابعتها والتي تشي بالكثير من الحقائق التي باتت في حوزة المعنيين في المقاومة، وأولها تعدد واتساع حلقة المشاركين فيها وقلقهم من الانكشاف.
سمير جعجع وشركاؤه الجدد من فصيل السفارات هو الخطر الأكبر على السلم الأهلي وواجب معاقبته وإعادته إلى السجن لا يجب أن تتأخر، وهو ما لا يحمي البلد فحسب، بل يحرّر ويحمي شريحة كبيرة اختطفها عنوة ويسترهن وعيها بلغة طائفية مقيتة، ويحمي بقاءها في أرضها التي ولدت فيها.
هدف المجرم الطليق واضح. استعانته بقاموس الحرب الأهلية واستثماره في التخويف الذي يخترعه لإعادة ابتناء الحيثية الميليشياوية يدلّ على طبيعة المخطط الذي تسعى مملكة المنشار إلى جرّنا إليه.