يتطوّر الصدام بينَ المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار والوزراء السابقين المُدَّعى عليهم في قضية انفجار مرفأ بيروت إلى ما يُشبِه حرباً مفتوحةً. لم يمتثِل هؤلاء لردّ محكمة الاستئناف في بيروت (برئاسة القاضي نسيب إيليا وعضوية المستشارتين القاضيتين روزين حجيلي ومريام شمس الدين) طلبات الرّد المقدّمة من النواب علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، لكفّ يد المُحقّق العدلي عن الملف. فيما لم يتراجع الأخير، متسلّحاً بـ«قوة إسناد» دولية وقضائية. لكنّ البيطار «لم يتهنَّ» بـ«فرصة» العودة التي منحته إياها محكمة الاستئناف، وقد كانَ يراهِن عليها لاتخاذ إجراءات قبلَ بدء العقد الثاني لمجلس النواب وتفعيل حصاناتهم، فحدّد تواريخ لجلسات استجواب جديدة لن تُعقَد، إذ بعد خمسة أيام بالتمام، أعاد المشنوق وخليل وزعيتر تحريك الرمال من تحتِه، وتقدّموا سوياً بدعاوى جديدة لدى محكمة التمييز. فقدّم وكيل المشنوق المحامي نعوم فرح دعوى طلب فيها «نقل التحقيق من يد البيطار وتعيين قاضٍ آخر بسبب الارتياب المشروع»، وطلبت نقيبة المحامين السابقة أمل حداد والمحامي رشاد سلامة، الوكيلان القانونيان لخليل وزعيتر، ردّ القاضي عن القضية لأنه «خالف الأصول الدستورية وتخطّى المجلس النيابي والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء». ودعوى الخليل وزعيتر تختلف عن دعوى المشنوق، إذ تُكفّ يد البيطار عن الملف فورَ تبلّغه طلب الرد، ويتعيّن عليه تعليق كل إجراءاته وتحقيقاته.الخطوة لم تكُن مفاجئة، وكانَ واضحاً أن الهدف منها كسب الوقت حتى 19 تشرين الأول (موعد العقد الثاني لمجلس النواب) بحيث لا يعود البيطار طليق اليد في إجراءاتِه. لكن حتى ذلِك الحين، ستحصل أمور كثيرة. ففيما يُفترض أن تُكفّ يد البيطار يوم الإثنين موعد تبلّغه الدعاوى، لا شيء يؤكّد أن محكمة التمييز ستتأخر في اتخاذ قرار بشأنها، وعلى الأرجح أنها ستسير على خطى «الاستئناف» وتبتّ بها سريعاً، ليعود البيطار إلى التحقيقات من جديد، إذ إن كل التوقّعات تشير إلى أن الغرفة الخامسة لدى محكمة التمييز برئاسة جانيت حنا (حيث أرسل القاضي سهيل عبود الدعوى) سترفض طلب الرد، في ظل الضغط الدولي المؤازِر للبيطار.
محكمة التمييز آخر السبل القانونية أمام النواب المُدّعى عليهم


وعليه، هل هناك طريق قضائي آخر يسلكه المدّعى عليهم؟
في القانون، لن يعود أمام الوزراء باب قانوني يطرقونه لتنحية البيطار. فالأخير يعيّنه وزير العدل بموافقة مجلس القضاء الأعلى، لكن من سيكفّ يده فيما لو رفضت المحاكم ذلك؟ مصادر مطّلعة على الملف تقول إن «رفض محكمة التمييز طلب الرد يعني تكريس البيطار قاضياً حاكماً بأمره، لا يستطيع أحد الاعتراض على ما يقوم به»، وبالتالي بعدَ «استنفاد السبل القانونية في المواجهة، تُصبِح المعركة سياسية بحتاً».
وفي حال رفضت محكمة التمييز طلب الرد أيضاً، ستتضاعف لدى البيطار مناعة الاستقواء بالدعم الخارجي والقضائي، وسيعمد إلى مضاعفة إجراءاته قبل 19 تشرين، إذ يتوقّع أن يصدِر مذكّرات توقيف في حق الوزراء الثلاثة، في حال لم يحضروا (على الأغلب) جلسات الاستجواب.
وعلى المقلب القضائي، باتَ شبه مؤكد أن البيطار سيدّعي على مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات، بعدما ادّعى سابقاً على القاضي غسان خوري بسبب ما اعتبره «شبهة حول قيام القاضي خوري بارتكاب جرائم جزائية ساهمت مع أسباب أخرى في التسبّب بوفاة أشخاص عديدين وجرح آخرين والإضرار بالممتلكات العامّة والخاصّة». والسؤال: لماذا لم يبادر البيطار إلى القيام بهذه الخطوات إلا متأخّراً؟ علماً أن عويدات هو من أعطى إشارة بوضع حراسة على العنبر الرقم 12 وأعطى الأمر بتلحيم بوابة العنبر. وكيف سيبرّر قاضي التحقيق أمام الرأي العام الادّعاء عليهما الآن بعد تحييدهما (بالاتفاق مع رئيس مجلس القضاء الأعلى)، علماً أنه منذ تسلّمه التحقيق هو يتعاون معهما في التحقيقات؟



مرجع دستوري فرنسي: البيطار انتهك مبدأ فصل السلطات
بناءً على طلب من الوزير السابق المُدَّعى عليه في قضية انفجار المرفأ النائب نهاد المشنوق، أعدّ البروفسور في كلية الحقوق في جامعة السوربون، دومينيك روسو، دراسة حول الاختصاص القضائي لمحاكمة وزير داخلية سابق، خلص فيها إلى أن «المحقق العدلي القاضي طارق البيطار انتهك مبدأ فصل السلطات». كبير القانونيين وأستاذ الحقوق الدستورية والعضو السابق في مجلس القضاء الأعلى الفرنسي، أكد في الدراسة التي أعدّها «مرجعية المحكمة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزراء بالادعاء والتحقيق مع الوزراء السابقين في قضية انفجار مرفأ بيروت»، معتبراً أن «ادّعاء القاضي البيطار على وزراء سابقين ينتهك مبادئ ذات شرعية عالمية كمبدأ فصل السلطات ومبدأ هرمية القواعد القانونية كما المادة 70 من الدستور. إنّ طبيعة الأفعال المنسوبة إلى الوزير متّصلة بممارسته لواجباته الوزارية ولا تتعلّق بصفته الشخصية، وتدخل بالتالي ضمن الصلاحية الحصرية للمحكمة العليا لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وفقاً للقرار المبدئي لمحكمة التمييز اللبنانية تاريخ 27/10/2000». واعتبرت الدراسة أنه «إذا كانت النصوص القانونية في بعض الأحيان ملتبسة، فذلك ليس الحال بالنسبة إلى المادة 70 من الدستور التي تنصّ على أنّه يحقّ لمجلس النواب اتّهام رئيس مجلس الوزراء والوزراء بالخيانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الاتّهام إلّا بغالبية الثلثين من مجموع أعضاء المجلس.
ويحدّد قانون خاص شروط مسؤولية رئيس مجلس الوزراء والوزراء الحقوقية». وأشارت الدراسة إلى أن «الدستور حدّد اختصاص المجلس الأعلى، في حين أنّ اختصاص المحكمة العدلية محدّد بقانون عادي. والدستور هو القاعدة الأسمى، وتحت طائلة الإطاحة بتراتبيّة القواعد، فهو يعلو أحكام القانون العادي». وأكدت الدراسة أنّ «القضاء المختصّ لمحاكمة الوزير هو، وفقاً للمادة 70 من الدستور، المجلس الأعلى كون القضاء العادي مختصّاً بمحاكمة الموظفين».