ليس «كلّ لبنان» سوقاً موازية أو ما يُعرف بالسوق السوداء. من يُتاجر بـ10 ليترات من البنزين، ومن أنشأ خزّان مازوت لتشغيل الصوبيا في الشتاء، ومن يتوسّط ليؤمّن علبة دواء بالدولار مقابل حصوله على عمولة، يمارس سلوكاً ليس سوى «نتيجة» لتحلّل الدولة وسيطرة الكارتيلات وإجراءات مصرف لبنان المُحفّزة للسوق الموازية. بالتأكيد لا يُمكن مقارنة هؤلاء بالمحتكرين. وحين تتمّ الإضاءة على الحالات الفردية في السوق الموازية، يجري، عمداً، تجهيل سيطرة كارتيلات الدواء والمحروقات وتجّار العملة على «التجارة الموازية». هي ليست بالاختراع الجديد أو الحصري بلبنان، كما أنّ وسائل التقليل من أضرارها واحدة: تعزيز الوجود الاجتماعي للدولة، وتأمين وصول السلع الحيوية للسكّان
السوق الموازية، أو اقتصاد الظلّ، أو السوق السوداء هي بحسب التعريف العلمي: المكان الذي يتمّ فيه تداول / بيع السلع والخدمات بأسعار غير رسمية، استناداً إلى مدى توافرها والطلب عليها. بشكل عام، تنشأ السوق الموازية بسبب القوانين أو الإجراءات التي تعتمدها الدول، ما «يُشجّع» تداول سلعٍ «غير شرعية»، كالمخدّرات مثلاً. وتلجأ إليها شركات وأفراد هرباً من دفع الضرائب، ما يُنشّط سوق التهريب. شحّ البضائع في السوق في مقابل حاجة المستهلكين إليها، يُعزّز أيضاً التجارة الموازية. في بعض الأحيان، تُصبح السوق الموازية هي المُحرّك الأساسي للاقتصاد، ولا سيّما في غياب الدولة ومؤسساتها الرقابية. من الصعب قياس حجم هذه السوق في الاقتصاد، لأنّها ببساطة لا تخضع للرقابة القانونية، ولا توجد إحصاءات رسمية عن حجم التبادل، أكان من حيث السلع أو النقد.
تسمية «السوق السوداء» لا تنطبق على الحالة اللبنانية، بل الأدقّ هي «التجارة الموازية»، المُتحايلة على الأنظمة والقرارات الرسمية. يندرج هذا التعريف اقتصادياً تحت خانة الـ«Contrebande» أي التهريب، الذي لا يتعلّق حصراً بنقل بضائع ممنوعة أو خاضعة لرسوم جمركية وبيعها في أسواقٍ أخرى، بل إن مزاولة التجارة بشكل مخالف للقوانين هي أيضاً تهريب. الثابت في كلّ الأحوال، أنّ السلع متوافرة ولكن يوجد من يمنع توزيعها وبيعها للناس، مُتحيّناً الفرصة المناسبة ليُحقّق منها أرباحاً.
ليست السوق الموازية أمراً جديداً في التجارة، لكنها باتت حاضرة أكثر في يوميات السكّان في لبنان بعد الانهيار، بسبب النقص في المواد الأساسية، في بلدٍ بُني اقتصاده على التبعية للاستيراد، والتفاوت بين السعر الرسمي «المدعوم» على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات للدولار، والسعر «المُتحرّر». من هنا، بدأ السكّان يتآلفون مع مصطلح «السوق السوداء»، التي تُمثّل بالنسبة إليهم «مُلتقى» السلع الأساسية غير المتوافرة في مراكز بيعها الأساسية. المُغذّي الأساسي لـ«التجارة الموازية» هو مزيج بين سياسات (غياب) الدولة وقرارات مصرف لبنان. فانهيار القطاع المصرفي وتوقّفه عن العمل، والانتقال إلى «اقتصاد الكاش»، ثمّ التقنين في فتح الاعتمادات اللازمة للاستيراد، وبثّ القلق في السوق عوض تحقيق الاستقرار، كلها عوامل مُغذّية للتجارة الموازية. ولهذه الأسباب كانت سوق الصرف والدواء والمحروقات، الأكثر تأثّراً بارتفاع الحركة في السوق الموازية.

تجارة الدولار... والليرة
بدأت السوق الموازية للعملة نتيجة شحّ الدولار وحالة عدم اليقين التي رافقت انهيار الليرة، معطوفةً على إجراءات المصارف في فرض قيود على التحويلات، ومنع المودعين من الحصول على دولاراتهم. يُدافع عاملون في سوق العملات عنها بأنّها «لو لم تكن موجودة، في ظلّ شحّ الدولار من المصارف ومصرف لبنان، لما كان هناك اقتصاد، فهي العنوان الأول اليوم لكلّ شخص يحتاج إلى النقد»، مُعترفين في الوقت نفسه بأنّ «تعاميم مصرف لبنان هي التي غذّتها». كيف؟ «في المرحلتين اللتين انهارت فيهما الليرة بشكل كبير، أي أواخر سنة 2020 والشهرين الأولين من سنة 2021، كان السبب الرئيسي هجمة المصارف على السوق لشراء الدولارات تنفيذاً للتعميم 154 الذي ألزمها بزيادة سيولتها بالدولار لدى المصارف المراسلة في الخارج بنسبة 3% من قيمة الودائع». إضافةً إلى إجبار «المستوردين على الدفع نقداً لمصرف لبنان حتى يفتح لهم الاعتمادات».
يقول العاملون في «تجارة النقود» إنّ مصادر الدولار في السوق الموازية هي أربعة:
- شركات التحويل المالي غير المصرفية التي تجمع قرابة الـ5 ملايين دولار في اليوم.
- الصرافة «غير الشرعية» ما وراء المحيطات. مثلاً يتفق شخص على تسليم مليار دولار لشخص آخر خارج لبنان، مقابل حصوله على 900 مليون دولار في لبنان نقداً.
- الأوراق النقدية التي تصل بالحقائب، ولا يُمكن تحديد حجمها.
- الدولار النقدي الذي يصل عبر المصارف.
المُغذّي الأساسي للتجارة الموازية هو غياب الدولة وقرارات مصرف لبنان


كيف تعمل سوق العملة الموازية؟ توجد ثلاث آليات عمل، الأولى هي استبدال شيك بالليرة بنقد بالليرة (شيك بقيمة 100 مليون ليرة يُساوي 89 مليون ليرة نقداً). كلّ الشركات التي «تقبض رسوماً وتجبي ضرائب عن الدولة وبطاقات التشريج... حقّقت أرباحاً نتيجة هذه العمليات بنسبة 10% عن كل عملية». فهي قادرة على تسديد الرسوم للدولة بالشيكات، لكنها تتقاضى جزءاً من أموالها نقداً. وهي تستخدم الفائض الموجود لديها للإتجار بالشيكات، وتحقيق الربح، أو لشراء الدولار. وتعزّزت سوق الليرة في ظل حجب مصرف لبنان الليرات النقدية عن السوق، بذريعة تخفيف الاستهلاك وخفض نسبة الطلب على الدولار. الآلية الثانية هي المتاجرة بالدولار النقدي، مبيعاً أو شراءً. أما الثالثة، فهي بيع شيكات الدولار المحلّي، والتي وصل سعرها نقداً إلى 17% من قيمتها الاسمية (كل شيك بقيمة 100 ألف دولار يُصرف بـ17 ألف دولار نقداً). هذه السوق لم تخلق أثرياء جدداً، بل ساهمت بمضاعفة ثروات أولئك الذين يملكون النقد. أما الذين يبيعون مئات الدولارات شهرياً ويشترون مثلها ظناً منهم أنهم «يتاجرون»، فهم يلهون بالفتات لا أكثر.

تجارة المحروقات برعاية «الكبار»
في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، كانت منشآت النفط بإمرة أحزاب وقوى سياسية توزّع «كوبونات» على المحسوبين عليها ليحصلوا على حصة من المحروقات لإعادة بيعها في السوق. اعتُبر ذلك إحدى وسائل «تقسيم» الأرباح بين المسؤولين من جهة و«جماعاتهم» من جهة أخرى، وكوسيلة لتعزيز الزبائنية السياسية. هذا النوع من «التجارة الموازية» لم يكن يؤثر على السوق، في أيام «البحبوحة»، إذ لم يكن السكان يشعرون بها. هي كانت أقرب إلى خوّة تُفرَض على بعض التجار للحصول على حصة من المحروقات للإتجار بها. يتغنّى مسؤول في منشآت النفط بأنّ «70% من هذه التهريبات ضُبطت حالياً، بعد ربط شركات التوزيع بنظام رسائل نصية يُحدّد لكلّ منها الكميات الحاصلة عليها وتاريخ توزيعها». إذاً هل يجعل ذلك الشركات المستوردة هي السوق الموازية؟ يردّ المصدر بأنّ «الموزعين هم عصب السوق السوداء في المحروقات». ماذا عن شركات الاستيراد؟ «هناك وسطاء بين شركات الاستيراد والموزعين، قد يعملون إلى توزيع صهريج بطريقة غير قانونية يُستخدم للتهريب والتجارة الموازية».
295 شركة توزيع مُسجّلة لدى منشآت النفط، «حصلت أخيراً 140 شركة منها على ترخيص. الشرط الواجب توفّره هو امتلاك الشركة صهريجاً أو محطة، وتحصل الشركات على المحروقات إما من المنشآت أو من شركات الاستيراد».
كلام المسؤول يوحي وكأنّه لا مسؤولية في التهريب على شركات الاستيراد، علماً أنّ غالبيتها تملك شركات توزيع أو تربطها علاقات مع الموزّعين المستقلين، «وتستحوذ على 55% من محطات الوقود المرخّصة. ومن أصل 1250 صهريجاً بحسب الرخص الصادرة عن وزارة الطاقة، تسيطر الشركات على أكثر من 850 صهريجاً سواء كانت مملوكة منها مباشرة أو متعاقدة مع كلّ شركة حصراً». يقود ذلك إلى خلاصة واحدة: تهريب وبيع المحروقات بغير أسعارها الرسمية تقودهما شركات الاستيراد والتوزيع، لا ذلك الذي يبيع البنزين بالـ«غالونات».

«بتدفع دولار بتاخد دوا»
يروي مستوردون للأدوية عن السنوات الماضية حين «كنّا نركض لبيع الدواء المستورد، من دون وجود حاجة إلى سوق موازية». ولكن كان للكارتيل ممارسات «سوداء» أخرى، تبرز خلال الأزمات والحروب، «كعدم عرض المخزون، مقابل إدخال أدوية عن طريق التهريب إلى لبنان والحصول على الكاش، وعمليات تزوير لأدوية ولكنها كانت محدودة». يقول عاملون في سوق الدواء إنّه «على الورقة والقلم، لا يحقّ للوكلاء والمستوردين سوى البيع بالسعر الرسمي، ومصلحتهم تقضي ببيع المخزون للحفاظ على العلاقة مع الشركات الأمّ في الخارج». ولكن يُضيفون بأنّ المستوردين وشركات التصنيع «دافنينو سوا». حالياً، يتمّ العمل «ضمن حلقة ضيقة بين بعض الوكلاء وأصحاب الصيدليات لبيع دواء مُخزّن بالدولار الأميركي، مُعتبرين أنّهم بهذه الطريقة يحفظون رأسمالهم من التآكل». إذاً، مصدر السوق الموازية في الدواء «إما مخزون قديم موجود لدى أصحاب المستودعات والصيدليات، يبيعونه بأسعار غير رسمية، أو لدى الوكلاء الذين لا يوزعون الدواء بل يُتاجرون به بطريقة غير شرعية».
في عالم يُسيطر عليه الاقتصاد النيوليبرالي و«يُبرّر» سعي الأفراد إلى تعزيز ملكياتهم الفردية ومراكمة أرباحهم على حساب الأكثرية ومن دون إقامة أي اعتبار للمجتمع، يُصبح «طبيعياً» انتشار أعمال «السوق السوداء»، التي تُبيح لغايات ربحية فردية المتاجرة بكلّ شيء، حتى ولو كان وجودها قائماً على ابتزاز الناس بحياتهم. ليس لبنان استثناءً في انتشار التجارة الموازية، وإن باتت «مشهورة» منذ عام 2019، ولكنّها ممتدة منذ سنوات طويلة. تقرير البنك الدولي الصادر سنة 2010، يُشير إلى أن معدّل انتشار السوق الموازية في لبنان منذ عام1999 وحتى عام2007 هو 33%. ما يُحفّز عمليات التخزين والبيع بأسعار غير رسمية، هو عدم عرض كميات كافية في الأسواق والحصار المفروض من مصرف لبنان على فتح اعتماد الاستيراد والضبابية في موضوع رفع الدعم. يقول اقتصاديون إنّه «متى ما انوجدت السوق الموازية يُصبح من الصعب ضبطها، إلا في حال قرّرت الدولة فرض رقابة على السعر والكميات، أي أن تستورد مباشرةً وتؤمّن بيع السلع الحيوية للناس».