يتعرّض لبنان لتغيّرات جسيمة جرّاء الانهيار وانتفاء دور دولة لبنان الكبير مع عدم نشوء دور بديل يبرّر إبقاء الكيان. لكن لن نوغل كثيراً في استرجاع التاريخ الاستعماري للمنطقة ودور لبنان فيه، فهذه الخشبية غير محبّذة في الخطاب الحداثي الطاغي بين النخب الثائرة بين حين وآخر، والمرشحة الآن بديلاً في الانتخابات النيابية العام المقبلة. وفقاً لسردية متسلّقي الانتخابات، هزيمة جبران باسيل وبالتالي قلب الأكثرية النيابية في برلمان لبنان يتيح… ماذا يتيح ذلك فعلاً؟ محاربة فساد المنظومة المفلسة؟ هزيمة المقاومة ضد «إسرائيل»؟ بما أن الانتخابات لن تغيّر فعلياً التركيبة ولن تأتي بالحلول الجذرية التي يحتاجها هذا الوطن العليل، هل هناك غاية من إبقاء الدعم قائماً لمجموعات كان يُفترض أن تكون بديلة للسلطة والتي بدأ يتضّح أنها لن تستبدلها قريباً (ولا بعيداً)؟ هل أصبحت النخب المنتفضة منتفية الصلاحية؟ ما هو أكيد أن هناك خيبة عند رُعاة البديل وملامة علنية للنُخبة العاملة لديهم في أكثر من مكان.نُخب المدينة هي الأكثر قابلية للخيانة والتاريخ مليء بالأمثلة والكتابات عن ذلك، من الكاتب الفرنسي جوليان بندا إلى إدوارد سعيد وغيرهما ممن تناولوا هذا الموضوع بتوسّع. ومن الطبيعي أن يتواطأ جزء كبير من النخب وينحاز للسلطة أو المنظومة المهيمنة لما في ذلك من مغريات للترقي الفردي لهؤلاء، بالإضافة إلى امتلاكهم ترف خيانة مصالح شعوبهم من دون عقاب يُذكر. وقد ظهرت في بيروت إبّان الانهيار مظاهر كانت بوادرها جليّة منذ زمن، لكنها تعاظمت مع انتفاخ القدرة الشرائية للدولار الطازج. خلق هذا التنامي في الثروة لمن لم يعتد الرفاهية قبلاً طبقة من الأثرياء الجدد الذين سارعوا إلى التصرّف على هيئة قدامى الميليشيات، وبات لكل مستزلم سابق زِلمه، وانتشرت الشُلل المحظيّة بالعملة الصعبة. أن يتخلّى الراعي المالي عن هؤلاء ويقطع الحبل الذي يرفعهم في منتصف البئر هو شيء محمود.
لكن ثمة مشكلة أخرى في حال فقد رُعاة النُّخب الليبرالية فجأة الأمل بهم وتركوهم ليعتاشوا من المهارات التي أنفقوا المليارات على تطويرها والتي لا يمكن إعادة تدويرها في أي مجال. فهناك مهارات استجداء تمويل لمشاريع غير ربحية على سبيل المثال التي تعتمد بشكلٍ كامل على توافر المكرمة الاستعمارية، وهي غير مهارات استجداء المكرمات من طحنون وبن سلمان وتميم التي طالما أتقن جيل من قدامى السياسة في لبنان استكرام آبائهم. كيف تنقل مهارات الإنفاق غير المسؤول وغير الإنتاجي في قطاع الترويج لإنجازات «إن جي أوزية» وهمية كالـreach والـvisibility (التي لا داعي أن تُترجم لأنها لا تعني شيئاً) إلى قطاعات إنتاجية وربحية تحتسب الربح والخسارة بكسور مئوية؟ ولنتوقف قليلاً عند التنافسية في قطاع الإصلاح والتنمية. كيف لقطاع يدّعي الخير العام أن يدخل في تنافس على تمويل مع خصوم تسعى دائماً للتمايز الترويجي بدل استغلال كافة طاقات البلد المتلاشية أصلاً في استراتيجية متماسكة هادفة، فنشهد معارك على التمويل بين جمعيتين تدّعيان العمل على قضية واحدة وتنشأ عداوات توازي تلك في معارك سوق الكولا الشهيرة بين بيبسي وكوكا كولا. والأنكى هو أنه بعد شرذمة القضايا الجامعة إلى حدّ الفردنة والتذابح على التمايز، تظهر موضة ليبرالية جديدة اسمها التقاطعية، تدّعي البحث عن التقاطع بين القضايا الهوياتية الفردية. أي أنه يتم كسر المزهرية ثم تبدأ محاولة لمّ القطع المتناثرة وإعادة جمعها ولصقها بالـ«ألتيكو».
لكن المشكلة لا تخص فقط حفنة من منتفعي نخبة جامعات بيروت العريقة، بل جيلاً كاملاً من الشباب الذي يعتمد على هذا النوع من العمالة التي قد تأتيه بالدولارات الشحيحة اليوم، لكنها تترك البلد رهينة صناعة غير منتجة ورهينة قرار قد يُتّخذ بوقف التمويل في أي دورة تمويلية مقبلة. وهذا حصل بالفعل في عهد ترامب حين قرّر وقف الهدر التنموي حول العالم بقرار شخصي ومرسوم رئاسي يخضع لمزاجه. كما أنه حصل مع شُراة الذمم التقليديين في أكثر من بلاط ملكي وأميري في منطقتنا مخلّفين جيلاً من يتامى المكرمات. وهنا يجب على أي بديل جدّي وثوري أن يحسب حساب هذا الارتهان ويتخلّص منه بأي ثمن.
واقع عمالة النخب وغياب البديل الثوري في صفوفها ليس مدعاة قلق. استغناء المستعمر القريب عنها، كإفلاس المنظومة، هو فأل خير. صحيح أن لبنان مأزوم ونخبته ممحونة، لكن محنة راعي الهيمنة الأكبر أكبر من محنتهم، والأحداث العالمية المتسارعة دليل على ذلك. هذا لا يعني أبداً أن الطريق سهل وانسحاب المستعمر من المستعمرات لم يكن يوماً طوعاً بل نتيجة هزيمة، وطبعاً لن يتركها مزدهرة بل ممصوصة الدماء. طبعاً هناك من يصدّق رواية استقلال لبنان وأبطاله وقلعة راشيا، لكن لهؤلاء حديث آخر.
رغم ما رُوّج له منذ تسعينيات القرن الماضي، التاريخ لم ينته (كما أنه لم يبدأ في 17 تشرين)، وصاحب نظرية نهاية التاريخ فرنسيس فوكوياما نفسه أقرّ بأن ما انتهى اليوم هو عصر الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة. كتب الرفيق عامر محسن في مقال سابقاً عن الانهيار الحاصل، قائلاً أن من فوائده أننا سبقنا المنظومة العالمية في الانهيار وذلك يمنحنا أفضلية في إيجاد بديل للمنظومة قبل غيرنا. الحل البديل موجود، لكن لن نجده بتصنّع التميّز، بل بالاعتراف بأن محنتنا هي كمحنة الكثيرين حولنا ولن نجتازها إلا مجتمعين. وإن كانت نخبة مدينتي مأزومة مستعمَرة فارغة منتهية الصلاحية وتنقصها الحلول، فالحلول ستأتي حتماً من خارجها. والأهم من ذلك، لن تأتي من أفكارها وغسيل الأدمغة الذي حصل على مدى العقود الماضية لخلق البدائل التي لا تتهدّد المنظومة النيوليبرالية المهيمنة بل تخدمها. التخلّص من المفاهيم والمصطلحات والقيم التي أرستها المنظومة ونبذ تغلغلها الثقافي ومحنه هو بداية الثورة.