شهدت بيروت حراكاً غير مسبوق منذ سنتين امتدّ شهوراً بحلل مختلفة، وتلاشى مع الوقت رغم محاولات الاستنهاض العديدة والأسباب اللامتناهية للمعارضة والاحتجاج. ورغم فشله، لا يزال هناك من ينصّبه بديلاً ثورياً، ويعقد آماله على انتصار انتخابي ليوصله إلى مبنى البرلمان بعدما فشلت عشرات الغزوات في خرق سور السلطة الوقائي الذي تتمترس خلفه شرطة رئيس المجلس النيابي نبيه برّي. يغضب البعض حين يقال إن 17 تشرين فشلت، فهي ثورة مجيدة وفق رواية الثوار، ويشهد على ذلك نجيب ميقاتي وحكومة صندوق النقد الدولي التي يترأسها. لا بل أكثر من ذلك، لجبران باسيل الذي شُتم ليلاً نهاراً الحصة الأكبر في هذه الحكومة، بينما يتقاسم الآخرون الذين استثنتهم أو لم تجرؤ الثورة على شتمهم الحصص الباقية. لكن لا همّ، عليهم في الانتخابات. فاصل موسيقي، قبل أيام ختم مغنٍّ حفلته في أحد المطاعم اليسارية الهوى في الحمرا (يبدأ اسمه بحرف المزيان) بأغنية «شيّد قصورك» للشيخ إمام. على مدى عقود ضمن هذه الأجواء، كان يتبع الأغنية هتاف الشباب المتحمّس «شيوعي، شيوعي». الشباب ما زال يتحمّس للأغنية لكنه استبدل هتاف «شيوعي، شيوعي» بشتم النائب الحالي والوزير السابق الذي يؤرق سفراء الناتو في معركة الانتخابات النيابية القادمة في دائرة البترون، شمال لبنان. الظريف هو أن الحزب الذي خسر حتى جمهور «شيّد قصورك» متحمّسٌ للانتخابات النيابية ويرى فيها فرصته لهدم المنظومة.مشكلة الحزب الشيوعي بحلّته الـ17 تشرينية، كأمثاله من المجموعات المعارضة المنبثقة عن الثورة المجيدة… عفواً، مشاكلهم لا تحصى، لكن إحداها هي أنهم صدّقوا خبرية أن الحراك حدّد من هي المنظومة العدوة للشعب الثائر، وأن الخلاص يكون بالتخلّص من هذه المنظومة الفاسدة. هنا دخل إلى الخطاب اللبناني تعريف جديد لـ«نحن وهُم»، نحن الضحية وهم الذين جوّعونا وفقّرونا وهجّرونا وفجّرونا وقتلونا، إلخ… لنغضّ النظر عن إشكالية التبسيط الساذج للواقع السياسي ونسلّم أن «هم» هم فعلاً شرشبيل سنافرنا، لكن من نحن؟ في الشارع، نحن الشعب الذي يملأ الساحات، أو ما تلتقطه منها شاشات التلفزة، لكن في صناديق الاقتراع لا يمكن ادّعاء تمثيل شعب من دون إثبات ذلك.
إما أن تتميّز إثنياً وعرقياً ومذهبياً وجندرياً وتتشرذم إلى حد «الفردنة»، أو لا تكون


ينكبّ الغرب الليبرالي في هذه الأيام على إصلاح اللغة لجعلها أكثر إنصافاً من حيث تعاملها مع الجندرة، ويرتكز ذلك بشكل أساسي على كيفية التعامل مع الضمائر المؤنثة والمذكّرة واستحداث ضمائر لمن لا يرون أنفسهم ضمن هذه الثنائية الضيّقة. وبما أن ضمائر المتكلّم والمخاطب في الإنكليزية والإسبانية وغيرها من اللغات التي تشملها ورشة الإصلاح هذه هي أصلاً خالية من الجندرة، يرسو تحقيق العدالة والمساواة الجندرية على ضمائر الغائب. لذلك قد ترون بعضهم يعرّفون عن أنفسهم باسمهم ملحقاً بضميرهم الغائب الذي يفضّلونه. مثلاً، أنا فلانة هي، أو أنا فلان هم. ما هذه إلا أحدث جولات التلهّي الليبرالي في السياسات الهوياتية الضيّقة التي لا تمسّ بالمنظومة المهيمنة. فإما أن تتميّز إثنياً وعرقياً ومذهبياً وجندرياً وتتشرذم إلى حد «الفردنة»، أو لا تكون. الجماعة تكون في تشجيع فريق كرة قدم، أما السياسة فهي رياضة فردية.
هذه الآفة الليبرالية تصيب الغالبية العظمى من مجموعات 17 تشرين، وهي من ركائز الثورات الملونة التي شهدها العالم منذ «نهاية التاريخ» بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. فهي تعرّف وتستهدف الـ«هم» بينما يبقى الـ«نحن» مزيجاً متشرذماً من الهويات غير السياسية، أو بكلام آخر، نحن اللاسياسيون المميزون. وهذه الحالة لم تأتِ من عدم، فهي نتيجة سنين من الاستثمار اللا حكومي من قبل صناديق استعمارية عملت على كي الوعي من أجل لحظة الحصاد. فهناك من رأى منذ سنين أنه لا بد أن تنتهي صلاحية عملاء الاستعمار الحاليين المنتدبين لإدارة الدول الخاضعة لهيمنة منظومة الاستعمار، ويجب التأكد من أن البديل هو من النوع الليبرالي الذي يلتهي بالضمائر الغائبة ولا يسائلها. لكن يبدو أن لبنان المعجزة عصيٌّ على هذه المعادلة بفضل هوياته الطائفية التي هي الأخرى صنيعة استعمارية للشرذمة. فمع انطلاق الحملات الانتخابية في لبنان وحول المنشر، لا تبدو القوى السياسية الكبرى قلقة من البديل الثوري الذي يتخبّط ليجد هويته. بغياب السياسة، وبما أن كل قوى التغيير تنبذ الطائفية على حد قولها، تحاول هذه المجموعات أن تخلق هوية تميّزها عن غيرها وفق المواصفات الليبرالية التي تليق بهم وتلقى موافقة الممول الرئيسي لآفتهم. فالجميع ديمقراطي والجميع ضد الفساد والجميع مع العدالة والجميع مع العيش الكريم ومع الحقوق طبعاً، ولا تنسوا الحريات الفردية. فلا كمية من الإبداع يمكنها أن تميّز الهوية السياسية، لذلك عليكم بالهوية البصرية.
القوى البديلة فعلاً مغلوب على أمرها، مأزومة، ممحونة، اختاروا واخترن الصفة والضمير الذي يحلو لكم ولكنّ. فهي تريد بل تستحق الأفضل، لكن «هم» جوّعونا وفقّرونا وهجّرونا وفجّرونا وقتلونا. لكن هناك «هم» آخر، وهؤلاء علّمونا ودرّبونا وموّلونا ولَبْرَلونا، ولم يفعلوا ذلك نتيجة كرم أخلاقهم، فالكرم والأخلاق ليسا من شيم المستعمر. هؤلاء بدأوا يستشعرون أن استثمارهم قد يكون فشل في خلق البديل الليبرالي الوديع لضخ دماء جديدة في منظومة بائدة خاضعة لهيمنتهم، وقد يقرّرون دفن الميت ووقف هدر مالهم. وهناك سوابق لهذه الإمكانية، فمن أوقف الدعم عن سياسيين ومصرفيين خدموه على مدى قرن لأن كلفتهم باتت تفوق منفعتهم، لن يفكّر مرتين قبل أن يهجر البديل الفاشل. لكن بما أنكم لا تعرفون هويتكم، فليس من المستغرب ألّا تعرفوا من «هم» الذين يجوّعونكم ويفقّرونكم ويهجّرونكم ويفجّرونكم ويقتلونكم. على كلّ، كلّ التوفيق في الانتخابات، فقد تكون الفرصة الأخيرة للاستفادة من ثروات الثورة، ودندنوا معي كلمات زياد الرحباني: «كنّا في أحلى الفنادق، تررم، جرجرونا عالملاجئ».
غداً: ما بعد عمالة الـ«فريش»