نحن في محنة حتماً. من أين نبدأ؟ المشاكل، لا بل المصائب، كثيرة وأصحاب الحلول قلّة، رغم أن الأجواء مثالية لعشاق الأحجيات. غير أن الحلول اليوم ليست سهلة. نحن نتكلّم عن بلد مأزوم من النواحي كافة داخلياً، بالإضافة إلى عقدٍ إقليمية وضغوط استعمارية (أو شرعية دولية كما يحلو للبعض تسميتها) وتحدّيات على مستوى البشرية مثل الوباء المنحسر والانحباس الحراري وتحويل المحيطات إلى مكبّات للنفايات وغيرها، ما يجعل الحلول أشبه بمكعّب روبيك الشهير. لكن بدل أن تكون أطرافه 3x3 كما صمّمه النحات المجري عام 1974، فهي 6x6 على مقاس الكليشيه المكرر في لبنان.إحدى الأحجيات التي يصعب حلّها هي كيف تترجم مفهوم الممحون بالمعنى الدارج في منطقتنا إلى لغات أخرى. إذا ما استثنينا الإيحاء الجنسي، المُحن هو كناية عن أزمة من الدلع الزائد والإحساس بأحقية الفرد بما يريده، وغالباً يكون ذلك مُرفقاً بانسلاخ عن الواقع وكل ما يحيط بالفرد من ظروف وناس وأزمات. يعامَل الممحون كحالة فردية خارجة عن الإجماع، والمطلوب منه هو أن يشدّ حاله ويستقيم. المحنة الفردية هي عندما يظن الشخص أن مشاكله فريدة ولا أحد يفهمه، وطبعاً لا يساعد في ذلك أسلوب العزل والدعوة إلى «شدّ الحال». مسؤولية المجتمع نحو أي فرد مأزوم أكبر من ذلك، لكن ماذا تفعل حين يكون المجتمع بأكمله لا يرى أن مشاكله تتداخل مع مشاكل كل من حوله؟
هنا بإمكانك توسيع البيكار قدر الإمكان أو تضييقه على ذوقك، وتبقى المِحَن موجودة في الدائرة التي ترسمها، وبكثرةٍ. لا يتخطَّى مجتمع (وجذر الكلمة جمع) محنته إلّا جماعةً. إذا قررت أن تنظر إلى تعريف الجماعة من أضيق منظور، وهو أن تعرف كل من في «بوطتك» بالاسم وترتادون المقاهي نفسها وتعملون في الفلك التمويلي نفسه، فحتماً جماعتك ممحونة ولن تكون جزءاً من الحل المطلوب لتخطّي التحدّي الآني الذي نواجهه. مثلاً، هناك في بيروت اليسار الديمغرافي، وزمرة عنزة، وشلّة دبس بن رمّان، وغيرهم (وتم تعديل الأسماء حماية للجماهير من خطر الشظايا المتطايرة من انفجار ايغوهاتٍ منتفخة). وهم حتى لو اجتمعوا، لا يشكلون جماعة قادرة على فرض حلول لمحنتنا. لكن، رغم ذلك، لن يجتمعوا لأنهم يدمنون التميّز الذي تشحّ احتمالاته يوماً بعد يوم، وأزمة التميّز هذه هي وباءٌ أتانا من الغرب أخطر بكثير من كورونا الذي قد يكون أتانا من الشرق.
عدا عن التشظّي في يسار نخب المدن الذي سنتطرّق له تفصيلياً لاحقاً، برزت ثقافة الهبسترز (Hipsters)، وهي من ظواهر الرأسمالية المتقدمة التي انتشرت بكثرة في العقد الأخير بين نخب الغرب، ونخرت نخب مدن الجنوب ومنها بيروت ورأسها وفروع ذلك الرأس. الهبسترية هي، بكل بساطة، ثقافة «محن» استهلاكي بالمعنى الدارج للكلمة. هي أزمة تميُّز نتجت عن طفرة اقتصادية في الطبقة الوسطى في بلدان الاستعمار، وتُرجمت في اللباس والمظهر في بداياتها، لتنتشر وتصيب النواحي الحياتية كافة بما فيها النشاط السياسي. لشرح هذه الآفة علينا الخوض في درس سريع في تاريخ الرأسمالية.
توقّع جون مينارد كينز، وهو من روّاد التنظير الرأسمالي، أن تكافئ الرأسمالية عمّالها بساعات عمل أقلّ مع الوقت، وذلك بفضل التقدم العلمي وتراكم الثروات وبناءً على المسار الذي كان قد بدأ أوائل القرن العشرين. وفقاً لورقة نشرها كينز عام 1930، قدّر أنه مع نهاية القرن لن تتجاوز ساعات العمل الـ15 ساعة أسبوعياً، ما يمنح العمال القدرة على الاستمتاع بحياتهم وقضاء وقتهم في نشاطات ترفيهية مع عائلاتهم. لم يراعِ كينز قدرة الجشع على تقييد راحة العمال ومنع تقليص ساعات العمل وتشغيل عدد أكبر من العمال في الإنتاج الرأسمالي (في المقابل كانت لكارل ماركس نظرية مخالفة، حسب رؤية ماركس الانخراط والانشغال بأعمال منتجة وهادفة هي ما يعطي الحياة معنى). خلافاً لنظرية كينز، ارتأى أصحاب العمل والأسهم تخصيص أرباح ومكاسب إضافية للأقلية، أو الوحوش الأوليغارشية، بدل إراحة الأكثرية التي ساهمت دماً وعرقَ جبينٍ في تحقيق تلك الأرباح. وبات على العمّال بذل جهد أكبر لإثبات جدوى توظيفهم في الوقت الذي كان بإمكان صرف هذه الطاقة في أفكار إبداعية وفنون أو في حرية الاستمتاع بما يريدونه وما توفره الحياة من متع.
لنبسّط المفهوم بأمثلة معاصرة. هناك أفراد، يُقال عنهم أذكياء، يتعلّمون في جامعات تبلغ أقساطها السنوية عشرات آلاف الدولارات ويحصلون على شهادات إدارة أعمال وترويج؛ بعد إتمام دراساتهم يلتحقون بشركات عالمية ويثبتون جدارتهم، لكن كل ما يفعلونه هو ما كان يسمّيه أحد أساتذتي في كلية الأعمال في جامعة ميامي في مطلع الألفية: إعادة تصفيف الأوراق على مكاتبهم. من أزمات الرأسمالية المتقدمة أن بعض الوظائف المستحدثة، ليست إلّا ساعات طويلة من إعادة تصفيف أوراقٍ على مكتب. طبعاً في يومنا هذا تم استبدال الأوراق بسلاسل طويلة ومملة من رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة التي لا تصب في أي محل. هناك كتاب لديفيد غرايبر بعنوان «وظائف خرائية» (Bullshit Jobs) حيث يستفيض في تشريح ظاهرة هذه الوظائف التي هي أبعد ما يكون عن العمل المنتج والهادف الذي تحدّث عنه ماركس. لكن غرايبر يشرح أيضاً أن لهذه المناصب وظيفة وهي منع التجييش، ومن النتائج المجتمعية لذلك هو الإحباط والكآبة والنقّ الدائم بين نخب المدن، حتى في أغنى الاقتصادات.
لكن على هؤلاء تبرير قيمتهم الوظيفية، فيتم عصر أفكار عشرات الأدمغة المبدعة لخلق قيمة مضافة حيث لا يوجد إنتاج فعلي. مثالٌ مدمّرٌ عن هذا الإبداع هو مفهوم تسليع مياه الشفة في عبوات بلاستيكية. كتب جبران خليل جبران في قصيدته «المواكب»، والتي اقتُبست منها أغنية «أعطني الناي وغنِّ» لفيروز: هل شربت الماء يوماً من حنفية أو صنبور؟ قد أكون مخطئاً إذ طالما اختلطت عليّ أسطر الأغنيات، لكن هذا الإبداع الترويجي أدّى إلى استيلاء شركة «نستله» على زمزمنا من المحيط إلى الخليج، وتثبيت فكرة أن المياه الجوفية يجب أن تصلنا بعبوات بلاستيكية ندفع ثمنها لشركات أجنبية. هذا مثال تبسيطي للرأسمالية المتقدمة، وهذا ما قبل الهبسترية التي فاقمت هذه الممارسات الإبداعية لخلق «قيمة» ربحية من دون إنتاج فعلي. أي أنها بمثابة «بونزي» ترويجي ساهم تكوين أزمة الرأسمالية في حلتها المتقدّمة والتي تؤدي حتماً إلى إفلاس وانهيار كما شهدنا في بيروت حيث تسعى هذه الرأسمالية للهروب من إشهار إفلاسها، إذ لا يمكن التحايل على القيمة الفعلية للأشياء إلى الأبد. مثال آخر فاقع الذي يشرح هذه الظاهرة الممحونة هو في تسليع فنجان القهوة، ونرتشف ذلك بشكل أوسع غداً.
غداً: سياسات احتساء القهوة