بات مألوفاً أن يعتذر أحدهم عن تلبية دعوة، أو يطلب عقد اجتماع عبر أحد التطبيقات الإلكترونية، إما لعدم توافر البنزين، أو توفيراً له للحالات الطارئة. الأمر نفسه ينطبق على موظفي القطاعين العام والخاص ممّن أجبرتهم الأزمة على تقسيم أيام عملهم بين المكتب والمنزل.ما لم يُصبح مألوفاً بعد هو استبدال السيارات الخاصة بوسائل النقل العام، حافلاتٍ وسيارات أجرة، بسبب تسعيرة النقل المرتفعة. تعرفة الـ«فان» مثلاً، زادت من 1000 ليرة إلى ما بين 10 آلاف و20 ألفاً. سائقون عموميون يطلبون ما يصل إلى 50 ألف ليرة على «توصيلة» داخل بيروت. أما إلى خارج العاصمة فتبدو الأرقام ضرباً من الخيال: 250 ألف ليرة من ضهور الشوير إلى بيروت (قبل الرفع الأخير لسعر صفيحة البنزين)، و500 ألف من بيروت إلى شكا. والذريعة شحّ البنزين وعدم القدرة على التحكّم بالمدّة التي يستغرقها المشوار، بعدما أصبح البلد يسير على توقيت محطات المحروقات: مغلقة تعني أن الطرقات شبه فارغة، ومفتوحة تعني زحمة خانقة تجعل قطع 5 كيلومترات بحاجة إلى ساعتين، خصوصاً على الأوتوسترادات التي صُرفت أموالٌ كثيرة على توسعتها كحلّ... لزحمة السير، قبل أن تؤكد تجربة الأشهر الماضية أنّ إنشاء جسور وتوسعة طرقات، بمعزلٍ عن خطّة شاملة للنقل ترتكز على تقليل الاعتماد على السيارات الخصوصية لمصلحة وسائل النقل العمومية، لم تؤدِّ إلّا إلى تشجيع استخدام السيارات وزيادة الضغط على البنى التحتية.
فإلى تقديم التسهيلات المصرفية والمالية لتحفيز شراء السيارات، أنفقت الحكومات المتعاقبة، بين عامَي 2010 و2019، ملياراً و650 مليون دولار على إنشاء الطرقات وصيانتها، وفق «الدولية للمعلومات». و«صفر دولار» على تطوير النقل العام. فلا حُلّت أزمة السير، ولا تحسّن وضع الطرقات لأنّ صيانتها وأشغال البنى التحتية تمّت بطريقة عشوائية وبـ«التسكيج»، علماً أنّه توجد في لبنان طرقات أكثر من تلك الموجودة في فرنسا وألمانيا.
يلفت الباحث في مجال النقل في جامعة ليون الفرنسية، علي الزين، إلى أنّ «إنشاء خطوط سير جديدة يسهّل استخدام السيارات، ويُحسّن حركة النقل بنسبة 20 إلى 30%. لكنّ الدراسات أظهرت أنّ هذا التحسّن يتلاشى بعد مرور 5 سنوات. ويمكن أن نلاحظ ذلك في لبنان مثلاً في نفقي العدلية والبربير وجسور المشرفية والرحاب والمطار ونهر الموت («السيتي مول»)، حيث الضغط لا يزال كبيراً»، مشدّداً على أن «من البديهيات أنّه لا يُمكن إنشاء جسور وطرقات قبل وضع خطّة للسير».
الاستثمارات في البنى التحتية أمرٌ مهم، «ولكنّها تبقى نظرة قاصرة إذا لم تقترن بخطة للنقل العام، لأنّ الطرقات لم تشكل في أي مرة حلّاً لأزمة النقل»، بحسب المدير العام رئيس مجلس إدارة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر. فهذا الإجراء لا يؤمّن عدالة التنقّل بين المواطنين ولا يُشجّعهم على الاستغناء عن السيارة، «ومع الأسف، ممارسات السنوات السابقة كانت تدميرية لقطاع النقل، حتى وصلنا إلى مشاهد الطوابير أمام المحطات وانهيار النقل العام بالكامل، ومأساة المواطن غير القادر على التنقل لتلبية احتياجاته اليومية بسبب غياب النقل المشترك. ما نمرّ به نتيجة طبيعية للسياسات المُتّبعة منذ عقود».
حتى أصحاب المركبات العمومية غير المُنظّمين، والعاملون في قطاع النقل الخاص باتوا - بحسب نصر - مأزومين «لعدم قدرتهم على الاستمرار بسبب شحّ المحروقات. الحل الوحيد أمامهم كان رفع الأسعار بشكل مبالغ فيه، فيما قسم كبير منهم يتعاقد حالياً مع المؤسسات التربوية لنقل التلاميذ».
مشروع «إعادة إعمار بيروت» أهمل عمداً تطوير النقل العام وخطّط لتعميق الفصل بين أحياء العاصمة وبين بقية المناطق


النقل العام لا يتعلّق حصراً بتسهيل تنقلات السكّان، ولكنّه ضرورة للتنمية الاقتصادية، ويلعب دوراً محورياً في الربط بين المناطق والتوحيد بينها اجتماعياً. على العكس من مشروع «إعادة إعمار بيروت» الذي أهمل عمداً تطوير النقل العام، وخطّط لتعميق الفصل بين أحياء العاصمة، وبين العاصمة وبقية المناطق. يُضيف علي الزين «أنّنا بعد 30 عاماً ندفع ثمن الحريرية السياسية. كان يُفترض أن تُشكّل أسواق بيروت مُلتقى لوسائل النقل المشترك، ولكنّهم لم يُريدوا أن يختلط عمّال المناطق برجال الأعمال».
بين 1992 و 2018، رُصد نحو 2.63 مليار دولار لتطوير النقل العام من دون نتيجة. عام 1995، صدرت دراسة لإنشاء خطّي «مترو »في بيروت مع 4 خطوط ترامواي، بكلفة تُقارب 2.5 مليار دولار. عام 2004، اتّخذ مجلس الوزراء قراراً بشراء 250 أوتوبيساً لبيروت الكبرى، حرّض القطاع الخاص على منع تنفيذه ورفضته البلدية. سنة 2010 أعلن وزير الأشغال السابق غازي العريضي أنّ خطة النقل العام مُجمّدة بقرارٍ من رئيس مجلس الوزراء السابق فؤاد السنيورة («الأخبار»، 17 أيلول 2010). سنة 2013 صدرت النسخة النهائية من دراسة أعدّها بنك الاستثمار الأوروبي حول النقل العام، بكلفة مليوني دولار كهبة للدولة، وكانت جاهزة للتطبيق. سنة 2019، قُبل قرض من البنك الدولي بقيمة 295 مليون دولار لتمويل مشروع الباص السريع، قبل أن يتقرّر أخيراً تحويل 255 مليون دولار منها لتمويل البطاقة التمويلية وبقي فقط 40 مليون دولار في وزارة الأشغال العامة. يُعلّق مهندس النقل زاهر مسعد بأنّ هذا «كان آخر مُتنفّس نملكه. قبل أن تُعدّل وجهة استخدامه، هناك بلديات رفضت أن تمر الخطة في نطاقها بذريعة أنها تضيّق طرقاتها». مشاريع كثيرة لم يكن الهدف يوماً تنفيذها، بل مسايرة الدول الغربية طمعاً بمزيد من القروض.
حالياً، ألغت الأزمة «امتياز» امتلاك سيارة وسهولة تأمين البنزين بسعر متدنٍ، فتجدّد الحديث عن تطوير النقل العام. «نحن اليوم بحاجةٍ إلى حلّ سريع، قبل الانتهاء من استراتيجية النقل، لأنّ الناس لا تملك بدل صيانة سياراتها ولا توجد محروقات. الخيار الأسهل والممكن هو تشغيل الباصات بأسعار مدروسة من الدولة مع توقيت عمل واضح ومحطات وقوف مُحددة. هناك دراسات تؤكد أنّ هذا المشروع يُكلّف 60 مليون دولار كحدّ أقصى، على أن يترافق مع تنظيم سيارات الأجرة والسرفيس». يؤكد مسعد أنّ من غير المُمكن تطبيق حلّ آخر غير الباصات، «لأنّ التغيير يبدأ من ثقافة المواطن، وتعزيز ثقافة المشي، ثمّ شبكة الباصات. بعدها ننتقل إلى الخيارات الأكثر تطوراً. في لبنان، الطرقات غير مؤهلة وثقافة استخدام النقل العام غير موجودة». ليس فقط لدى العامة وإنما لدى السلطة السياسية حتى ما بعد الأزمة، وظهر ذلك في تحويل قرض البنك الدولي لتمويل البطاقة التمويلية. يعتبر نصر ذلك «انتكاسة للمرفق الحيوي. واجب الدولة تأمين النقل المشترك، وإذا كان الهدف بناء شبكة حماية اجتماعية، فإنّ النقل في طليعة الخدمات العامة التي تحتاجها الناس».



عدد كبير من المركبات... حدّ أدنى من التنظيم
يؤكد المدير العام رئيس مجلس إدارة مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك زياد نصر إنّ هناك «عدداً كبيراً من المركبات، وحدّاً أدنى من التنظيم». قبل شهرين، تقدّم بخطة إلى الحكومة السابقة «لوضع شروط وضوابط تنظيمية لخريطة توزيع الباصات ودورنا كمصلحة، فنكون قد حلّينا جزءاً بسيطاً من الأزمة، لكن لم يتمّ التجاوب معنا». تماماً كما لم يتم التجاوب مع طلب مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك تأهيل وصيانة مرآب الباصات وورش العمل والباصات التي تضرّرت في انفجار مرفأ بيروت وتُهدّد السلامة العامة بسبب غياب التمويل. ولا يُنفّذ قرار مجلس الخدمة المدنية الصادر سنة 2014 بإجراء توظيفات في المصلحة لوجود شواغر أساسية ومُلحة لتسيير المرفق.
نظّمت المصلحة «4 مناقصات لتنفيذ الحدّ الأدنى من الصيانة: تغيير الدواليب والبطاريات، لم يتقدّم إليها أي مُتعهد بحجة انهيار العملة وتفلّت أسعار الصرف. لا يقبلون الدفع بموجب حوالة، والمصلحة لا تقدر قانوناً على الدفع نقداً». يعتبر نصر أنّ «الحدّ الأدنى من الصيانة وتنظيم شبكة متكاملة للنقل تستفيد من وجود المركبات الخاصة والباصات العامة، ضمن شروط تأمين الخدمة للناس، تشكّل إفادة للنقل المشترك، وليس وضع المشاريع الكُبرى حالياً».


فياض: بنزين مدعوم للنقل العام
علمت «الأخبار» أن وزير الطاقة وليد فياض ناقش مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ضرورة أن تُبادر الحكومة إلى خطوات دعم للنقل العام بموازاة عملية رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية. ويشمل الاقتراح دعم سعر البنزين الخاص بسيارات الأجرة من خلال تخصيص كل سيارة بعدد من صفائح البنزين شهرياً، وفق سعر مدعوم، مقابل عدم رفع تعرفة النقل المعتمدة من قبل هذه السيارات.
أما في ما خص النقل العام، فقد أثار فياض موضوع تفعيل النقل العام على الخطوط الرئيسية بين المحافظات، على أن يجري تخصيص جزء من أموال صندوق النقد أو أموال أخرى لتدعيم هذه الخطة التي يعمل عليها وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية. ويبدو أن فياض يُصرّ على طرح الموضوع على مجلس الوزراء ضمن برنامج تسهيل حركة النقل العام في معرض مواجهة أعباء تحرير سعر المحروقات. وهو يرى أن على الدولة المساعدة في معالجة هذا الملف الذي يعني كل الناس. كما لا يستبعد فكرة إشراك القطاع الخاص في هذه العملية بما يُساعد على خلق سوق للنقل العام والخاص، ما يوفر حاجة الناس إلى استخدام سياراتهم الخاصة ويقلص، بالتالي، أكلاف النقل من جهة واستهلاك المشتقات النفطية من جهة ثانية. وهو يؤكد أنه لا يمكن رفع الدعم من دون توفير علاجات لهذه المشكلات. ويرى فياض أنه يمكن للحكومة، بالتعاون مع القطاع الخاص، إيجاد حلول توفر وسائل نقل مريحة وفعالة وجيدة على الخطوط الرئيسية وتفتح الباب أمام مشاريع مشابهة داخل المناطق.


باصات فرنسية
أبلغ وزير الأشغال العامة والنقل علي حمية «الأخبار» أنّه طلب من السفيرة الفرنسية آن غريو هبة باصات للدولة اللبنانية، و«أن تكون كافية لتوزيعها على كل المناطق وليس بيروت فقط». وأوضح أنّ في وزارة الأشغال «عدداً من مشاريع النقل المشترك من دون تنفيذ أو رصد اعتمادات، سنعمل على جمعها ضمن استراتيجية موحّدة للنقل العام... لكننا قبل ذلك بحاجة إلى حلولٍ ظرفية سريعة كتأمين باصات».