في زقاق متفرع من شارع ليون في الحمرا، محل صغير لا يتوقف صوت ماكينة الخياطة فيه عن الهدير. بين عشرات من «بكرات» الخيطان الملونة وأكياس الثياب المعلقة في انتظار أن يستلمها أصحابها، يجلس وسام غاوي ممارساً مهنة أحبّها «منذ الطفولة» كونه الابن الأوسط لزكي غاوي، تاجر الأقمشة الشهير في مدينة حمص وصاحب مصنع معروف للألبسة.في الظاهر، ما من شيء يوحي بالفرادة: ماكينة خياطة، مقصّ، شريط للمقاسات، وأقمشة متناثرة هنا وهناك. تفاصيل تتكرّر في كل محال الخياطة، لولا صور رسوم الفساتين الملوّنة المعلقة على الحائط. إذ إن وسام، أساساً، مصمم أزياء، نال إجازة في هذا المجال من جامعة المأمون الخاصة في حلب، إلى جانب دراسته إدارة الأعمال. وهو، في «سيرته الذاتية»، تعاون بين عامي 2014 و 2015 مع دور أزياء يملكها مصممون لبنانيون بارزون مثل طوني ورد وإيلي صعب، في مراحل محددة من إنتاج الفساتين. مهارته العالية وخبرته في هذا المجال كوّنت له رصيداً من العلاقات، مكّنه من الإشراف على مشاريع تخرج بعض الطلاب في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU) في مجال تصميم الأزياء أثناء عمله في إحدى الشركات المتخصصة في بيروت.
قبل بدء أحداث سوريا عام 2011، كان الشاب العشريني مديراً طموحاً يحمل كثيراً من الأفكار لتطوير عمل العائلة والتوسع في المهنة، وأثبت براعة في الإدارة والتفاوض مع التجار وإدارة الصفقات... حتى اندلاع التظاهرات التي تركّزت قرب موقع المعمل في «ساحة الساعة» في المدينة. هجر العمّال المعمل، وسكت صوت الماكينات لتحل مكانه أصوات القذائف في الحرب التي سقط فيها شقيقه الأكبر. منذذاك، تبدّل كل شيء. تركت العائلة حمص إلى دمشق، ومن ثم إلى بعلبك حيث جربت فتح صفحة جديدة، لكنها لم تُوفق ما تسبّب بإفلاسها والعودة إلى النقطة الصفر بعد أربعين عاماً من العمل، بدأها الأب في سبعينيات القرن الماضي.
عشر سنوات مرت جعلت من وسام، اليوم، ثلاثينياً يسكن شارع الحمرا، وخياطاً يملك ماكينة واحدة لا معملاً. يتقن الخياط نسج مستقبله بعناية كما لو كان فستاناً أو قطعة قماش يخيطها بصبر ودقة. نكسات الماضي جعلته أكثر إصراراً ومثابرة، فأكمل دراسة إدارة الأعمال المؤجلة في الجامعة العربية المفتوحة في بيروت، وأنهى السنة الأولى من دراسة الحقوق في الجامعة الإسلامية. سماعات الأذن التي يعلقها لمتابعة المحاضرات المسجّلة باتت مشهداً مألوفاً لزبائنه لأن «التحصيل العلمي أولاً». وهو أقام مع الكتاب علاقة خاصة منذ الصغر، في دار النشر التي كان يملكها أخوه في حمص حيث «كنت أقضي ساعات طوالاً بين رفوف الكتب. وفي المساء أزور جارنا القس صاحب دار النشر المقابلة لمناقشته في مضامين الكتب». بسبب ذلك، بدأت تتكون لديه اهتمامات أخرى في مجال الأديان، دفعته للغوص في الكتب الدينية على اختلافها، تحولت مع الوقت إلى دافع له لإنجاز فهرس موسع للعهد القديم «أعمل عليه منذ عشر سنوات، وأحلم في أن يتحول إلى كتاب مطبوع أو تطبيق ذكي على الهواتف يساعد الباحثين والراغبين في دراسة العهد القديم». وهو اليوم، أيضاً، بصدد التحضير لدراسة الماجستير في العلاقات الإسلامية- المسيحية بعد حصوله على منحة مدفوعة التكاليف من الجامعة اليسوعية في بيروت.