إعادة هيكلة القطاع المصرفي، أم إصلاحه، أم تصحيحه؟ سؤال كهذا مثير للشبهات أصلاً. فهل يجب التفكير مرتين بالأمر؟ مصدر الانهيار في لبنان هو القطاع المصرفي بشقّيه: مصرف لبنان والمصارف المتوقفة عن الدفع منذ 23 شهراً. لذا، فإن إعادة هيكلة القطاع يجب أن يوازيها تصحيحه وإصلاحه. إنما المشكلة ليست مرتبطة بالتعابير وتفسيرها، سواء وردت في البيان الوزاري أو في أي بيان آخر لوزير في حكومة ميقاتي أو لزعيم أو لنائب أو رئيس حزب من قوى السلطة. بل هي في أن هذه الحكومة تمثّل المشروع الرابح: مشروع «حزب المصرف».من الآن فصاعداً، سيتولى فريق «حزب المصرف» بقيادة الرئيس نجيب ميقاتي، إدارة دفّة الأزمة. في البدء أوكلت المهمّة إلى سلامة ضمن هدف تدمير «خطة التعافي». ومنذ آب 2020 لغاية تشكيل حكومة ميقاتي، وبفعل الفراغ الحكومي، ونجاح سلامة في تدمير «التعافي»، تطوّرت المهمة إلى هدف إطفاء الخسائر عبر تدمير المجتمع. أما اليوم، فإن تشكيل حكومة بقيادة ميقاتي، لا يعني أبداً أن السلطة التنفيذية ستتخلّى عن المشروع الذي أسّس له سلامة، بل على العكس ستتمسّك به أكثر فأكثر. فبقيادته، كان مسار التصحيح أو إعادة الهيكلة ينطوي على معنى واحد: تمديد مفاعيل الانهيار لشراء المزيد من الوقت. مسار سلامة يتطلّب وقتاً طويلاً لإطفاء الخسائر ببطء شديد. ويتطلب أيضاً من المجتمع أن «يشارك» جبراً، بفعالية وبكثافة، في تسديد كلفة الإطفاء.
في الواقع، سيطرة المشروع الفائز مصدرها الآتي: لا مشروع مضادّاً! ليس في مقابل المسار الذي أنشأه سلامة أي خطّة ثانية. ليس هناك من يتعامل مع الخسائر بطريقة مختلفة. ليس هناك من يرى أنه يمكن تحديد بنك أهداف آخر (غير ضرب مداخيل الناس ومدخراتهم ومستقبلهم) ضمن عملية توزيع الخسائر. لو كان هناك مشروعان يتصارعان حالياً، لكان بالإمكان القول إن مسألة استكمال ميقاتي وحكومته للمسار الذي أنشأه سلامة، مسألة جدلية غير محسومة. لكان ساعتها ممكناً القول إن هناك فرقاً ما، بين إعادة الهيكلة والتصحيح أو الإصلاح أو أي من العبارات التي سترد في المشروعين. أما في ظل سيطرة وسيادة المشروع الواحد، فإن أي تدقيق للفصل في معاني العبارات ومدى قربها أو تباعدها أو تمايزها عن بعضها البعض، ليس سوى مضيعة للوقت. ثمة مشروع واحد قائم. وفي سياقه، ربما ستطرح الحكومة بفريقها الحالي المؤلف من وزير للمال كان يشغل موقع مدير العمليات المالية في مصرف لبنان، وإلى جانبه بضعة أكاديميين أو تقنيين مغمورين لا خبرة سياسية لهم، إجراءات تحسينية على مسار سلامة. قد يزعم فريق ميقاتي، أو حتى فريق رئيس الجمهورية، أو حتى الحاكم نفسه، أو أي من أعوان الرئيس بري، أن هناك ضرورة لمنح الناس «فرصة» لامتصاص الصدمة أو الصدمات الآتية، تمهيداً لاستكمال «العلاج». «فرصة» كهذه التي نشهدها اليوم في ظل انخفاض سعر صرف الدولار مقابل الليرة بأكثر من 5000 ليرة خلال أقل من أسبوع. لكن لا، لن يطرح أي فريق مشروعاً مناوئاً لمشروع سلامة، سواء أقرّ البيان الوزاري إعادة الهيكلة أو التصحيح أو الإصلاح. ليس أي من هؤلاء قادراً على صياغة مشروع مضادّ.
يقف وزير المال مستمعاً في مجلس الوزراء حين تناقَش صيغة التعامل مع الأزمة


بمعنى ما، عاد سلامة إلى «التشكيلة» السلطوية السابقة. هم ثعالب في الواجهة، وهو صقر في الخلف. كذلك، هو لم يعد مضطراً الى أن يتعامل مع رئيس الجمهورية وفريقه. لم يعد مضطراً إلى أن يناقشهم في مسائل كـ«الدعم». لم يعد مضطراً إلى أن يضغط عليهم لتحمّل مسؤولية رفع الدعم، بينما تستنزف الاحتياطات بالعملات الأجنبية ويصبح هو، يوماً بعد يوم، مكشوفاً أكثر على إعلان الإفلاس. إفلاس يأتي قبل سنة ونحو ثمانية أشهر على انتهاء ولاية سلامة. هو أصلاً «فنان» في شراء الوقت. ففي عام 2016 اشترى أشهراً لتجنّب إعلان الإفلاس بكلفة باهظة جداً. في كانون الثاني 2016 كانت خسائر مصرف لبنان تبلغ 20.4 مليار دولار، إلا أنه في نهاية كانون الثاني 2020 بلغت هذه الخسائر 43.8 بحسب ما ورد في خطة التعافي. أما اليوم، فإن هذه الخسائر تبلغ 66.9 مليار دولار (الدولار محسوب على أساس 1507.5 ليرات). بكلفة 23.3 مليار دولار، اشترى الحاكم وقتاً يمتد على خمس سنوات. في الأسابيع الأخيرة من السنة الخامسة (2020) وقع الانهيار. ومن وقتها إلى اليوم يعاني اللبنانيون من كلفة إدارة الانهيار بواسطة شراء الوقت أيضاً. بدلاً من التصحيح، أو إعادة الهيكلة، أو الإصلاح، ذهبنا نحو تبديد الاحتياطات على «تجارب» الدعم. لم توضع أي خطة واضحة للدعم، ولا لبدايته ولا لنهايته أيضاً. انتهى الأمر بكارثة. من وقتها لليوم، اشترينا وقتاً إضافياً للإقرار بوجود سعر صرف فعلي يختلف عن ذلك السعر المثبت وهمياً بتدخلات مصرف لبنان في السوق، ما ترك المجال مفتوحاً لتعددية أسعار الصرف وخلق مشتقات منها. من يومها، تناوبت قوى السلطة على حماية سلامة لتشتري هي أيضاً وقتاً لنفسها تستخدمه محلياً وإقليمياً ودولياً. وهي اليوم تريد تجديد شرعيتها تجاه الخارج بينما تتصارع في الداخل على استحقاقات سياسية تبدأ بالانتخابات النيابية وتتواصل نحو الانتخابات البلدية والرئاسية. لذا ستشتري الوقت لتمرير ما يجمع عليه أطرافها، وتسوية ما يختلفون عليه. لا يمكن القيام بذلك إلا عبر الاندماج كـ«فريق» واحد بين حكومة ميقاتي وسلامة. شراء الوقت يعني لملمة تماسك المنظومة التي كانت على وشك الانهيار إثر 17 تشرين الأول 2019. كذلك، فإن شراء الوقت يعني مواصلة التقدّم ببطء نحو الهدف. قضمة وراء قضمة. شكلياً، على سلامة أن يقدّم الاستشارة والنصح، وعلى الحكومة اتخاذ قرار. عملياً، هو وميقاتي وحدهما سيتخذان القرار نيابة عن المنظومة كلّها. فالاثنان تجمعهما علاقة قديمة. مرّتان جُدّد لسلامة في حكومتين يرأسهما ميقاتي. في واحدة من المرات، كان التجديد قبل الاستحقاق. وفي الثانية طرحه ميقاتي من خارج جدول الأعمال. علاقة تكافل وتضامن بين الرجلين كانت دائماً برعاية الرئيس نبيه بري وبضعة آخرين.
صياغة البيان الوزاري ليست سوى تمرين على آليات التسوية وأدواتها. لهذا السبب لا يرد أي مشروع يتعلق بتوحيد سعر الصرف مثلاً. خطوة كهذه تقع ضمن مطالب صندوق النقد الدولي أيضاً (لمحبي التعامل مع صندوق النقد الدولي لوصفات الفقر الممنهج)، لكنها لا تقع حالياً ضمن نطاق مشروع سلامة ــــ ميقاتي. توحيد سعر الصرف، أو تحريره عملياً، قد يعمّق الحروق التي أصابت المجتمع بشدّة وقساوة، لكنه سيطال المصارف أيضاً. يجعلها تتحمّل خسارة فعلية وقد يسمح للاقتصاد بأن يتجه نحو تجاوز الأزمة، نسبياً. قد يوقف إطفاء الخسائر عبر المضاربات على تعددية أسعار الصرف. عندها قد تصبح إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبارة مقبولة.
«على فكرة»، أين وزير المال يوسف الخليل من كل هذا النقاش؟ يفترض أن يكون هذا الوزير قائداً لهذا النقاش في مجلس الوزراء. لم يعبّر عن أي وجهة نظر بمقدار ما أظهر في خطابه أن لديه فكرة واضحة عن «علم الاقتصاد المعاصر» القائم على تراكم رأس المال البشري والنظام البيئي إلى جانب رأس المال الإنتاجبي والمالي... مهلاً: المشكلة كما عبّر عنها يوم تسلّمه الوزارة: «فقدان الثقة بالمؤسسات الحكومية والخاصة هو عائق ثقيل أمام إخراج لبنان من مشاكله، وزيادة الثقة بالسياسة المالية تتطلب تغييراً أساسياً بأداء وصورة وفعالية وشفافية الإدارة العامة، وتفاعلها مع المواطنين». لعلّنا سنأخذ بنصيحة الخليل في أداء الإدارة العامة للمطالبة بإعادة هيكلتها بدءاً بقانون النقد والتسليف الذي ينظّم صلاحيات حاكم مصرف لبنان والمجلس المركزي. مصرف لبنان هو الإدارة العامة بالمفهوم الواسع، وليس مجرّد «مؤسسة عامة مستقلّة» وفق التوصيف القانوني البحت. يوسف الخليل هو من يجب عليه أن يقود كل هذا النقاش، بينما في الواقع يقف مستمعاً في مجلس الوزراء حين تناقش صيغة التعامل مع الأزمة في البيان الوزاري، ويقف منظّراً رأسمالياً لدى تسلّمه وزارة المالية. لعلّه لن يكون مجرّد «محاسبجي» كفؤاد السنيورة، بل سيكون أقرب إلى «شاهد الزور» على الهندسات المالية فحسب.