كثرٌ يدينون لرياض سلامة بالاعتذار، عدا عن تراكم الديون التي يدين له بها الشعب وما قد ينبثق عن هذا الشعب من أجيال قادمة. فهؤلاء استهزأوا بالجوائز التي كانت تعطى لأفضل حاكم مركزي في العالم، إذ تبيّن لاحقاً أن الجوائز هي التي كانت تكرّم حين تحظى بالتزيّن باسم حاكم مصرف لبنان الأزلي. سنعود لنشرح لماذا لاحقاً، لكن أولاً يجب أيضاً لفت النظر إلى مجموعة أخرى من السذّج الذين كانوا يرشّحون رياض سلامة لرئاسة الجمهورية اللبنانية. أولئك المساكين يظنون أن في منصب الرئاسة الأولى ترقية وظيفية مستحقة للحاكم، لكن سامحهم يا سلامة، فهم لا يفقهون. قبل شرح الأسباب الموجبة للاعتذار، لا بدّ من إلقاء الضوء على مجموعة ثالثة من الناس الذين يعادون سلامة من منطلق إيديولوجي، إذ يعانون من رهاب المال الناتج من حقد دفين تجاه من هم أنجح منهم ومن يجني الثروات دون تصبّب عرق الجبين (ربما يتصبّبون قليلَ العرق من أماكن أخرى، لكن حتماً ليس من جبينهم)، هؤلاء الكارهون لا علاج لهم من معاداة السلامية… إلّا إغراؤهم بحفنة من الأخضر الطازج الذي طالما لَبْرَلَ يساريين سابقين.كانت الفرضية أن جوائز أفضل حاكم مركزي تمنح للحاكم جرّاء سياساته النقدية الحكيمة وحرصه على سلامة العملة الوطنية وتفانيه في تطبيق قانون النقد والتسليف والذي يشكّل الركيزة الأساسية للقطاع المصرفي والمالي، والذي بدوره يشكّل الركيزة الأساسية للاقتصاد اللبناني والذي يشكّل بدوره الركيزة الأساسية لمشروع لبنان الكبير والذي يشكّل جزءاً من مشروع سايكس بيكو التقسيمي للمنطقة وإن لم يكن ركيزته الأساسية. لكن ماذا لو كانت الجوائز تكافئ حاكميته؟ أمِن منازع لتلك الحاكمية؟ أيجرؤ أحدٌ على مساءلة حاكمية رياض سلامة؟ وهنا تظهر سذاجة من كان يقترح رئاسة الجمهورية اللبنانية ترقيةً وظيفيةً لرياض توفيق سلامة. تصوروا أن يضيّع الحاكم وقته وجهده في مفاوضة رئاساتٍ من الطراز الثاني والثالث على ثلث ضامنٍ من هنا، وحقيبة سيادية من هناك. هذه ليست ترقية بل عكس ذلك، فالرجل يتربّع على حاكمية تسمو على الجمهورية ولا ترتكز على ركائزها، بل تطوف فوق أسعار صرف وهندسات مالية يخال لغوغائيي اليسار أنها هرمية بونزي مفلسة، فقط لأن حقدهم يعميهم عن حقيقة أن الحاكمية بألف خير.
بغياب برنامج انتخابي معادٍ لحاكمية مصرف لبنان، ستحتدم المعركة «الديموقراطية الاجتماعية» على الوصول إلى البرلمان


يحلو للّبنانيين استخدام تعبير «عابر للطوائف» على أنه توصيف إيجابي في زمان الطائفية حيث الحدود الافتراضية ضمن حدود سايكس وبيكو (اللذين سبق ذكرهما ووجب لعنهما) الافتراضية هي الأُخرى. لكن في زمان الحاكمية لا شيء يحدّ بين الطوائف ولا حتى بين سلطات الدولة التي غالباً ما يقيّدها الدستور بتفاهة مسماة استقلالية السلطات، بل حتى السلطة الرابعة بكامل ثوريتها تقبع تحت سحر الحاكمية. وبما أن موسم الانتخابات النيابية انطلق، وهو بالمناسبة الموسم الأكثر ربحية لمؤسسات الإعلام اللبناني المأجور وجديد هذا الموسم الانتخابي الملوّن بالثورة هو أنه أيضاً الموسم الأكثر ربحية للمنظمات غير الربحية، من المفيد الاطّلاع على جناح الحاكمية في البرلمان بدءاً من رأس الهرم الذي احتفى بإسقاط اقتصاص ودائع كبار المودعين حين دعا إلى «قراءة الفاتحة والترحّم على الهيركات كما تم الترحّم على الكابيتال كونترول» في نيسان 2020. كما يتباهى نائب رئيس مجلس النواب بأنه عضو في حزب المصرف ويدافع عنه بحموٍ لا يضاهيه إلا حمّة دفاعه عن تلقّيه لقاح الكورونا قبل أن يحلّ دوره. لن يسائل إيلي الفرزلي الحاكمية، بل قد يتّهمنا بالمسّ بهيبتها ويطلب معاقبتنا فهو صريح في ولائه، لكنْ هناك آخرون تستعصي عليهم الصراحة. رئيس لجنة المال والموازنة في البرلمان يحلف بشواربه (والتي قد تكون خدعة بصرية، فقد حدّقت في عشرات الصور عبر السنين ويصعب الجزم إن كان إبراهيم كنعان حليق الشارب أو لا) بأن همّه أموال المودعين، في حين أنه كان رأس الحربة في إسقاط الهيركات المرحوم واستبداله بقصاص سحوبات الـ 3900 السلاميّ والذي يدّعي اليوم، مع زملائه في اللجنة النيابية، أنه يسعى إلى تعديله. الحاكمية تقرّر تخفيف حكم قصاص اقتصاص ودائع، وجناحها التشريعي يشرّع القرار.
لكن التغيير آت لا محال في الثورة الانتخابية القادمة. فلقد بدأت تظهر الحملات الإعلانية للبدائل الثورية وبدأ الترويج لهذه البدائل على الشاشات الثورية الخاضعة بطبيعة الحال لحاكمية رياض سلامة. وطبعاً كما هو معروف، التغيير الثوري يبدأ دائماً بتصميم ولوغو وحملة إعلانية جذابة. ويبدو أن الدراسات التي أجريت على المجموعات المستهدفة (Focus Groups) استنتجت أن البديل الذي تبتغيه الجماهير الثائرة على السياسة يجب أن يكون ديموقراطياً واجتماعياً. استشرف زعيم الكتائب اللبنانية سامي الجميّل ذلك باكراً، وهو المعروف بناظوره الاستراتيجي، عندما غيّر اسم حزبه إلى الحزب الديموقراطي الاجتماعي اللبناني (داجل)، لكن كما يقول المثل «علّمناهم على الشحادة فسبقونا على صناديق الاقتراع»، وها هم الثوار اليوم يتسابقون مع القائد السامي وبدأت تظهر أحزاب ديموقراطية اجتماعية يميناً و«يساراً» لخوض الانتخابات النيابية القادمة في الربيع المقبل، وجميعها عابرة للطوائف بالمناسبة. «الديموقراطية الاجتماعية» في السياسة هي بدعة ليبرالية تدّعي إمكانية تغليب مصلحة المجتمع على مصلحة الشركات ضمن المنظومة الرأسمالية، أي أنها لا تتناقض البتّة مع حاكمية المصرف، لكن الأحزاب الجديدة في لبنان تعبت من السياسة ولا تريد التعمّق في هذه المفاهيم والجنوح نحو «الديموقراطية الاجتماعية». هو فقط لأنه ألطف على السمع من تسمية هذه الحركات اليمينية بحقيقتها «الديماغوجية الانتهازية».
في غياب برنامج انتخابي معادٍ بصراحة لحاكمية مصرف لبنان، سوف تحتدم المعركة «الديموقراطية الاجتماعية» على الوصول إلى البرلمان. لكن في ظل الديماغوجية الانتهازية المحتدمة، سوف يسعى السياسيون الجدد غير السياسيين إلى الطريق الأسهل لتحقيق مبتغاهم، والطريق الأسهل إلى المقعد النيابي هو حيث الحاصل الانتخابي الأدنى. قد نرى في دائرة بيروت الأولى الانتخابية في أيار القادم سيناريو شبيهاً برواية الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو «البصيرة»، حيث تصيب المجتمع آفة التصويت بالأصوات البيضاء فيعطّل الديموقراطية. سيناريو بيروت الأولى هو أن تترشّح مئات لوائح الديموقراطيين الاجتماعيين في الدائرة، وألا تحصل أيّ منها على عدد الأصوات التي يقتضيها «الحاصل الانتخابي». ماذا يحصل في هذه الحالة؟ على كل، ما زالت هناك ثمانية أشهر في المعركة الانتخابية، فلا بدّ من أن يسطع نجم أحدهم، وإن لم يحدث ذلك، فليختر رياض سلامة الفائزين، لا فرق، فكلّهم ينبذون معاداة السلامية.