من أوحى لوزير التربية طارق المجذوب بمقولة إن «التعليم الرسمي عين والتعليم الخاص عين أخرى»، لا يقيس بعدالة حجم الكارثة النازلة بالتعليم الرسمي الذي ينحدر منذ أكثر من عقدين، فيما ينمو التعليم الخاص على حسابه. وهو، أيضاً، لا يدرك أن ادّعاء المساواة بين القطاعين تصبّ حتماً في مصلحة الأخير.الوزير وفريقه في الوزارة ومستشاروه لم يقدّموا للتعليم الرسمي ما يبقيه على قيد الحياة، ولم يحدّوا من تسلّط المؤسسات التربوية الخاصة وإمعانها في امتصاص مقدرات الأهالي والدولة. وها نحن اليوم في أزمة جديدة ناتجة من سوء تقدير هذا الفريق وهؤلاء المستشارين. كان واضحاً، منذ أكثر من عامين، أن المدارس الخاصة ستشهد نزوحاً للتلامذة إلى المدارس الرسمية بسبب الأزمة الاقتصادية حتى وصل الرقم إلى 90 ألفاً من أصل 500 ألف تلميذ، أي 18%، ويتوقع زيادة بنسبة 14% لهذا العام ما عدا الذين هاجروا وهم كثر.
صحيح أن الانحدار في التعليم الرسمي ليس جديداً. وهو يعود، بالحدّ الأدنى، إلى عام 1997 مع تعطيل تطبيق المناهج المقرّة آنذاك، وتقليص بعض موادها، وتقصير السنة الدراسية وإجراء تدريب شكلي للمدرّسين والمدرّسات عليها وسرقة أو تعطيل تجهيز المدارس بالمعدّات والمستلزمات الضرورية، ووقف التوظيف في التعليم من خلال مجلس الخدمة المدنية وكلية التربية ودور المعلمين.
في المقابل، حافظ المشرّعون على تفوّق القطاع الخاص وعزّزوا وجوده بتعطيل التشريعات والقوانين الضابطة لسلطانه. فالقيّمون في لجنة التربية النيابية هم أنفسهم أصحاب مدارس خاصة، ومصلحتهم تقضي بإضعاف التعليم الرسمي، واستبداله بالخاص أو التحكّم به لمصالحهم ومصالح المؤسسات الدينية والحزبية الخاصة التي تسيطر على الوزارة ولجنة التربية النيابية معاً. فالتعليم كان ولا يزال رافداً مالياً وانتخابياً لكل الأحزاب، ومصدر درّ أموال هائلة من أقساط الأهالي وخزينة الدولة عبر المنح والإيجارات والتوظيف الانتخابي والمساعدات الدولية التي تصب في معظمها في جيوب المحازبين والقطاع الخاص في صفقات مشبوهة وتعيينات حزبية وطائفية.
منذ ذلك الوقت، يجري تغييب أو تعطيل عمل الكفاءات، صاحبة الرؤية التربوية الشاملة، التي تضع خططاً أو ترسم تشريعات نهضوية مستقبلية. ربما لم تعد مناهج عام 1997 صالحة لتطبيقها اليوم، لكننا لم نطبّقها في الأساس لنعرف تأثيرها على التلامذة. هذا التراكم أدّى إلى ضياع التعليم الرسمي وأصاب نواتج التعلّم بخلل استطاع القطاع الخاص الإفادة منه باعتماد مناهج رديفة أظهر فيها تفوّقه على مناهج 1997 غير المطبّقة في التعليم الرسمي. وعزّز هذا التفوّق بتشريع لجنة التربية النيابية، بسلاسة وبطلب من المؤسسات التربوية الخاصة، قوانين البكالوريا الفرنسية والدولية وغيرهما. وبات واضحاً اليوم إصرار المؤسسات التربوية الدينية والخاصة على رغبتها في إدارة التعليم الرسمي.
المسألة اليوم تتجاوز الحلول الآنية المتمثّلة بتأمين المحروقات للمدارس والمعلمين وكلفة النقل للتلامذة فحسب، إلى إعادة وزارة التربية ترتيب أولويّاتها وصياغة أهدافها العامة، والتعامل مع الواقع الجديد بمرونة والتكيّف مع الأزمة بوضع هدف أسمى هو تأمين مقعد دراسي لكل تلميذ وتقديم تعليم كفؤ وتعويض الفاقد التعليمي الذي خسره التلامذة خلال العامين الماضيين. والمقصود هو تأمين نوع من العدالة تشمل حق التعلّم والعيش الكريم للأهل وتأمين الحماية الصحية والغذائية والاجتماعية والمساواة.
حافظ المشرّعون على تفوّق القطاع الخاص وعزّزوا وجوده بتعطيل التشريعات والقوانين الضابطة لسلطانه


كيف يتحقق ذلك إذا كان مستشارو الوزير من غير ذوي الكفاءة في التربية وعلم الاجتماع التربوي وفي إعداد المناهج ولا هم خبراء في السياسات التربوية والتدخّلات الطارئة وعلماء نفس تربويين؟ في الواقع، يلجأ الوزير إلى أساليب المناصرة، غير العلمية، لتحشيد الدعم الشعبي والشعبوي في اجتماعاته ليخرج بعدها ويقول إن المجتمعين (نقابات، مؤسسات تربوية وأهال وإدارة..) قرروا كذا وكذا، ونكتشف لاحقاً أن المؤسسات التربوية أو النقابات تستخدم أسلوب المناصرة والتحشيد نفسه، فتجتمع مع لجان أهل ونقابة المعلمين وتُصدر بيانات مناقضة لبيانات الوزير.
من يضع عملياً الخطط في الوزارة والمركز التربوي؟ وكيف يتم تفريغ المركز التربوي من كوادره وتعطيل عمل الكفاءات فيه؟ وهل استدعاء دكاترة لتزيين قاعة اجتماعات الوزير كافٍ، أم الهدف هو تشكيل خليّة عمل حقيقية تقيّم الوضع وتطرح الخطط على أن تقوم الإدارة التربوية بتنفيذها فحسب؟
من نشاطات المركز التربوي زيارات يقوم بها لحشد الدعم والتنسيق وتعديل المناهج مع مكونات العائلة التربوية (من مدارس خاصة حصراً!). شخصان يرافقان رئيس المركز بالتكليف جورج نهرا في زياراته بصورة أساسية، هما الدكتور هشام خوري، و«الدكتور» جهاد صليبا، وهما متعاقدان مع المركز التربوي بصفة استشاري. يُعرف عن الأول بأنه خبير تكنولوجيا التعليم، علماً بأنه غير متخصص في هذا المجال، بل بالأمن السيبراني، فيما تكنولوجيا التعليم هي اختصاص مختلف تماماً يفترض معرفة بنظريات التربية والتعليم والمعرفة التكنولوجية معاً، والتوظيف العلمي للتكنولوجيا في التعليم. أما صليبا، فيقدم كمستشار أول في المركز التربوي ومستشار وزارة التربية لإعداد المناهج الجديدة وهو مواكب لنشاطات المركز بصفته دكتوراً في التربية! إلا أنه ليس «دكتوراً» ولا حتى مسجّل كطالب دكتوراه. وبحسب سيرته الذاتية من موقع «لينكدإن»، فهو حاصل على ماجستير عام 2015 من الجامعة الكاثوليكية في باريس، وعنوان رسالته:The Lebanese School System Between Religious Pluralism and Social Cohesion”- النظام التعليمي اللبناني بين التعدّدية الدينية واللحمة الاجتماعية»، أما الدكتوراه فلا وجود لها وهو لا ينفي عدم حيازته لها لا أمام وزير التربية ولا أمام رئيس الجمهورية أو زملائه في المركز. وكما هو واضح لا علاقة لموضوع رسالته بالتربية، بل هي بحث اجتماعي ديني، كما أنه يحمل إجازة بالدين والفلسفة واللاهوت... فكيف يتبوّأ مهمّة حساسة في المركز التربوي (العقل المخطط للتربية)، ويشارك في تحديد مصير مئات الآلاف من التلامذة؟ كيف يقبل الوزير بوجوده على طاولته، وكيف يقبل المركز التربوي بتوظيفه ومن تعاقد معه ومن اختاره؟
إنهم مستشارو الفشل التربوي المترافق مع الفشل الإداري في الوزارة والحكومة، ومساهمون في تدمير ما تبقّى من تعليم وكفاءات.
* باحث في التربية والفنون