كان بإمكان رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي أن يستلهم من تجربتَي الرئيسين سعد الحريري وقبله الرئيس تمام سلام معنى المفاوضات المباشرة مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. لكنه بدلاً من ذلك راهن على تقاطعات محلية وإقليمية تجمعهما، وعلى تاريخ علاقة ثلاثية مع حزب الله، يمكن من خلالها الوصول الى السرايا بأقل الأثمان. لكنه حتى الآن لا يزال يدفع من رصيده المحلي والإقليمي، من دون أن يقطع نصف المسافة المؤدية الى التأليف.حين خاض ميقاتي أولى تجاربه الحكومية، لم يكن يقوم بها من منطلق الخصومة أو المواجهة مع عون وباسيل. وهما اللذان كانا قد تميّزا بمقارعة الرئيس فؤاد السنيورة وبعده الحريري (قبل التسوية الرئاسية وشهر العسل بينهما). في حكومته الأولى، كانت التغطية الدولية والإقليمية للإشراف على الانتخابات أكبر من المماحكات السياسية. في المرة الثانية، مهّد باسيل ــــ بالإعلان من الرابية عن انسحاب الوزراء من حكومة الرئيس الحريري أثناء وجوده في واشنطن ــــ الطريق لعودة ميقاتي الى ترؤس «حكومة اللون الواحد»، ما سحب كل عناصر المواجهة بين عون والرئيس المكلف، الذي أعطى لتكتل الإصلاح والتغيير حصته من دون كلفة عالية، وأعاد لباسيل مقعده الوزاري في وزارة الطاقة.
ظروف المفاوضات اليوم مختلفة، من موقعَي عون وباسيل من جهة وموقع ميقاتي من جهة أخرى. فالطرف الأول يخوض معركة المواجهة الكبرى في اتجاهات متفرقة، ضاغطاً على ميقاتي في المكان الذي يوجعه. ليس سهلاً على الرئيس المكلف الذي أعطى لنفسه مهلة محددة، ثم تراجع عنها ثم عاد ليدوّر الزوايا، أن يغرق بالإيجابيات والتصريحات المطمئنة وهو يدرك أن العقبات لن تزول بسرعة من أمام وصوله الى السرايا الحكومية. يلعب العهد لعبة الوقت مع ميقاتي. وحده أم من ورائه حزب الله؟ ذلك هو السؤال الذي يشكّل بالنسبة الى من أيّد وصول ميقاتي الى مرحلة التكليف، المفتاح لحل عقدة الحكومة. لكنه في الحالتين، يعرف مكان الضعف في رغبة الرئيس المكلف في أن يكون رئيساً للحكومة، قبل الانتخابات وبعدها حُكماً، وهذه النقطة أساسية ومهمة على طريق تكوين كتلته النيابية المقبلة، فيخرج من عباءة طرابلس وحدها. كما أن تأليف الحكومة، عدا عن الإضافات الإقليمية والدولية، هو المكان المناسب للعهد في ترجمة «صموده» منذ 17 تشرين حتى اليوم، ضد حملة إسقاطه محلياً وخارجياً، واستبعاده لاعباً وناخباً ومرشحاً في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مهما كانت كلفة ذلك على الناس اقتصادياً ومعيشياً.
كلمة السرّ الإقليمية لم تصل إلى ميقاتي المتمسّك بدعم باريس عديم الفائدة حتى الآن


ميقاتي لم يستفد من تجربة الرئيس السابق تمام سلام في معركة إدارة التفاوض الشاقة مع عون وباسيل، قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان وبعده، كما كان يجري خلال جلسات مجلس الوزراء الصاخبة. وكذلك الأمر من تجربة الحريري الأخيرة في جولات ماراتونية مع عون وباسيل بالواسطة، من دون طائل. فرغم أن كلمة السر الإقليمية لم تصل إليه، وظلّ متمسكا بدعم باريس عديم الفائدة حتى الآن، إلا أن محاولته القفز فوق حسابات عون وباسيل الداخلية المحض أعادته الى المربع الأول. والعهد وباسيل جارياه في سياسته الترويجية الإيجابية، كما فعلا سابقاً مع الحريري، لا بل تفوّقا عليه، رغم أن مجال ميقاتي أسهل وأوسع في المناورة مما كان عليه الأمر مع الحريري. فهو «ابن الخط» الذي لا يبعد كثيراً عن اتجاه العهد، وهذا ما راهن عليه بدوره، لكنه استنفد حظوظه معه، لحسابات لا تتعلق به حصراً. لذلك فإن كل يوم يمر، يزيد من فرص الحصار عليه، داخلياً بأبعد مما حوصر به الحريري، أولاً من رؤساء الحكومات السابقين، الذين لكل منهم تجربة مُرّة مع عون وباسيل في عملية التأليف، وثانياً من كلفة الوضع الاقتصادي المتأزم أكثر فأكثر، وثالثاً في القرارات القضائية في حق رئيس الحكومة المستقيلة حسان دياب الذي سبق أن زاره الحريري متضامناً كما فعل رؤساء الحكومات السابقون، وفي حق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، حتى من دون التوقف عند تداعيات وصول باخرة النفط الإيرانية. من الصعب على من يعاين الوضع المالي والاقتصادي والاجتماعي من خارج لبنان، أن يصدّق حجم العوامل الداخلية والشخصانية في عملية التأليف، بعيداً عن كل الأسباب الموجبة التي تحتّم السرعة لا المماطلة في وضع عملية إنقاذ كبرى، فترمى كل العراقيل على الأسباب الإقليمية والدولية. إلا أن المفاوضات في قصر بعبدا وخارجه محكومة بتفاصيل صغيرة عن الحصص والأسماء المُنزلة والقبض على وزارات أساسية، وعن الصفقات المنتظرة والأموال الآتية من صناديق الدعم، والأهم عن رسم استراتيجية السنة الأخيرة من العهد وما بعده. عند هذه النقطة، بإمكان ميقاتي أن يفوز بعملية التأليف أو يخسرها، فيما لن يكون عون متفرجاً على من يحاول قطف السنة الأخيرة من العهد.