الحكومة كانت تستطيع اتّخاذ قرار باستيراد البنزين والمازوت مباشرةً، ولكنّها لم تفعل. ضيّعت كلّ الخيارات البديلة، وحين قرّرت المبادرة قامت بالاستدانة من مصرف لبنان وبالدولار لمصلحة شركات استيراد المحروقات، لتزيد بذلك أرباح الكارتيل. وتقاعست الدولة عن تنفيذ قرار التعبئة العامة الصادر عام 2020، ويُجيز لها «فرض الرقابة على مصادر الطاقة وتنظيمها وتوزيعها»، بما يتضمّن ذلك من مُصادرة ووضع اليد على المنشآت والسلع للحفاظ على أمن البلاد. أمام الاستقالة الكاملة للسلطة السياسية من تحمّل المسؤولية، قرّر بعض الناس أخذ المُبادرة بأنفسهم والدفاع عن «أمنهم الطاقوي»، بصورة عشوائية.يعرفون أنّ المسؤولين السياسيين ومصرف لبنان ومستوردي المحروقات والأدوية والمواد الغذائية (سابقاً) والمخابز، يكذبون عليهم حين يقولون إنّ المواد الأساسية مقطوعة. إذا كان أفرادٌ قد عمدوا خلال الأشهر الماضية إلى تخزين كميات من المازوت بهدف تأمين حاجاتهم الخاصة، تحضيراً مثلاً لفصل الشتاء، فهل من المعقول ألّا يكون التجّار المُحتكرون والموزّعون لتلك المواد، قد خزّنوا كميات ضخمة منها، تحضيراً لبيعها بأسعارٍ مرتفعة وتحقيق أرباح طائلة، بعد رفع الدعم نهائياً عن الاستيراد؟ لماذا على الناس أن تقبل إذاً التقنين القاسي في التغذية الكهربائية، وتلف المأكولات، وتعطّل الأشغال ووسائل الاتصال، ومواجهة الحرّ من دون وسائل التبريد، وتوقّف ماكينات الأوكسيجين في منازل الفقراء، فيما المحروقات مؤمّنة للنافذين والسياسيين ومن يملك المال؟ كان الردّ بمصادرة صهاريج المازوت من المنشآت النفطية وشركات الاستيراد.
مُصادرو المازوت يرفضون اعتبار ما يقومون به سرقة، إذ يدفعون الثمن لسائق الصهريج

«ظاهرة» تمدّدت في أكثر من منطقة، يقوم خلالها شبّانٌ بمصادرة المازوت واستخدامه لتشغيل المولدات في البلدات والأحياء. هؤلاء يرفضون أن يكونوا سارقين، إذ يصرّون على كونهم لا يُصادرون المازوت لبيعه أو تهريبه، بل يدفعون ثمن السلعة لسائق الصهريج. و«المُصادِرون»، في مختلف المناطق، لا يُخفون هوياتهم، يعرفهم المسؤولون في وزارة الطاقة والمنشآت النفطية والجيش والقوى الأمنية. فرضوا وجودهم على «السوق»، فبات المسؤولون يعقدون معهم «اتفاقيات مرورية» لتسهيل نقل المازوت بين المناطق. وهم نجحوا، أحياناً، في تأمين المازوت لبلداتهم وأحيائهم، تحت تهديد «مُصادرة صهاريج منطقة أخرى». أما الجيش اللبناني، فيقول عاملون في القطاع النفطي إنه يلعب دور «الوسيط» بين المُصادِرين وأصحاب الصهاريج، لتأمين إيصال الأموال من الجهة الأولى إلى الثانية. لكن هذا الدور لا يضمن «أمن» عملية المصادرة دوماً. ففي بعض الأحيان، يكاد بعض أصحاب الصهاريج يُشعلون «معارك طائفية» أو مناطقية، في حال صادر أبناء «طائفة أخرى» أو «منطقة أخرى» المازوت الذي اشتروه من الشركات أو من منشآت النفط.
من ناحية أخرى، ولكن أيضاً من نتائج أزمة المحروقات وانقطاع المازوت، برز «بزنس» جديد. بعض شركات التوزيع تستأجر عناصر حماية مُسلحة لمواكبة نقل المازوت إلى المنازل والمؤسسات حيث ستُفرغ. الحالتان غير مُستغربتين في بلدٍ عَمد فيه المسؤولون منذ سنوات إلى تفكيك الدولة وتغييب دورها نهائياً، لصالح «السوق الحرّة».