«وكان جرحي عندهم معرضاًلسائح يعشق جمع الصور»
محمود درويش


أكثر من كابوس بحجم وطن. أكثر من ذكرى مُفجعة. الرابع من آب عنوان لكارثة استثنائية، لا تعرفها الشعوب إلا نادراً، وفي لحظاتها الأكثر قتامة وسواداً. كارثة عظمى غيّرت معنى الأشياء. إنّه يوم نهاية العالم كما نعرفه في بلد العيش الهانئ و«الكذبة التي صارت زلمة»، مثل «راجح» في «بياع الخواتم» (الأخوان رحباني). إنّه يوم موت الروح، بعد طول احتضار، بعد سنوات طويلة تركنا خلالها السرطان ينخر جسد الوطن. انكشفت للرأي العام عملية «سطو القرن»، ورحنا نعيش وقائع موت معلن: تسارع الانهيار الاقتصادي والنقدي، تبخّرت الأموال، وواصلت الإدارات والبنى التحتيّة تأكّلها، ودخلنا زمن الجوع والفقر والتسوّل. فيما أباطرة النظام واصلوا إدارة شؤون البلاد، بالعقلية نفسها، بالجشع والوقاحة والسلبطة إيّاها، كأنّ شيئاً لم يكن.
ثم جاءت الجائحة لتزيد بؤسنا، وتُظهر عجزنا وخوفنا، وتُكرّس موتنا... وأخيراً، وعند لحظة الذروة، كان الانفجار الفظيع، وهو بين الأضخم في الذاكرة البشرية. 219 شهيداً، 6500 جريح، عشرات آلاف المنكوبين، مدينة مدمّرة، خسائر قدّرها البنك الدولي بأربعة مليارات دولار. لكنّ الأخطر والأفظع يبقى تلك الطعنة في الأعماق التي لا شفاء منها. لقد نقلتنا من عصر إلى آخر. منذ ذلك الوقت توقّف الزمن، صار صفراً عملاقاً ندور حوله. إنّها الجريمة القصوى، الجريمة ما بعد الأخيرة التي لم يعد للوطن الممزّق، المتصدّع، المنهار، طاقة على احتمالها.
مع انكشاف خدعة «الأوهام الحريرية» القائمة على الاستدانة والريعية والفساد و«اقتصاد الكاباريه» ـــ وقد شارك فيها، واستفاد منها كثيرون طبعاً ـــ وجد الشعب نفسه جائعاً وحافياً وعارياً. وها هي الفقّاعة التي كان اسمها «الأعجوبة الاقتصاديّة اللبنانيّة»، و«الازدهار» و«الرخاء» و«سويسرا الشرق»... تنفجر، مع مرفأ بيروت. ليكتشف اللبنانيون، بعد فوات الأوان، إفلاس نظام سياسي اقتصادي، بل منظومة كاملة، استغلّتهم واستعبدتهم وحوّلتهم إلى طفيليين، وأقعدتهم عن الابتكار والإنتاج، وسرقتهم، وطيّفتهم وعصّبتهم وتمترست خلفهم في كل الحروب. كُتب وقيل الكثير حول هذه الجريمة التي باتت مجالاً لتأويلات وتحليلات ومزايدات ونظريات مؤامرة لا تُحصى... لكن، أياً كانت خلفياتها، وتفاصيلها الخفيّة حتّى الآن، وربّما إلى الأبد، فالثابت أن ما وقع قبل عام في مرفأ بيروت، على تراجيديّته، جدير بأشهر نصوص العبث واللامعقول. لو كان «أوبو»، بطل ألفرد جاري، ملكاً على لبنان لأمكن ربّما تفادي الكارثة.
لا شكّ في أن الجريمة جماعيّة. ولا شك في أن المسؤوليّة مشتركة. ولا شك في أن العدالة أولويّة قصوى. الكارثة سببها تراكم الجهل وقلّة المناقبيّة، وعقليّة السمسار والمقاول والقواد والوسيط، وغياب الجدارة والجدية، والاعتباطيّة والخفّة والإهمال والفساد، والبيروقراطية وسوء الإدارة، وتأكّل المؤسسات وعقم الإدارات، والعجز وقصر النظر، والحسابات الفئوية والمافيوية. ويمكن أن نزيد الكثير في توصيف تلك الحالة التي وصلت إليها جمهوريّة الموز، ونعرف جميعاً أن السواد الأعظم من أسيادها ومنظّريها وحكّامها وإقطاعيّيها منذ الاستقلال ـــ مثلما الكثير من «ثوّارها» و«معارضيها» اليوم ـــ كانوا ولا يزالون في خدمة الديمقراطيات الاستعمارية، متواطئين مع «الغرب»، حائزين على دعمه وبركاته. كثيرون من هؤلاء ترتعد فرائصهم اليوم من شبح «العقوبات» لا خوفاً على ثرواتهم فحسب، بل لأنّها ستحرمهم من متعة ارتشاف الـ «كابوتشينو» في مقاهي الشانزليزيه!
لكنّ هذه الهوّة البلا قرار التي حفرها انفجار المرفأ، يحاصرها اليوم الندّابون الكذبة، وتجار الأزمة، وسماسرة من نوع جديد ملائم للأزمنة «الثوريّة». كان يفترض أن تكون الفاجعة لحظة تاريخية توحّد اللبنانيين في المأساة، وتجمعهم على مشروع وطني قوامه النهوض من قلب الانهيار، وإعادة تأسيس دولة مدنية جديرة بتضحيات الشهداء. بدلاً من ذلك تحوم الغربان حول أطلال المدينة، وتحلّق الكواسر حول الجسد المحتضر لتنهش ما تستطيع من الامتيازات والأموال والمناصب والمصالح والأدوار...
كثير من الهتّافين الذين يحشدون ويعبّئون للرابع من آب، ويحرّضون الناس منذ أيام، على محطات تموّلها أنظمة التخلف والرجعية والاستبداد، وعلى مواقع تدجّن مشاريع التغيير بدولارات مُغمّسة بدمنا، ليسوا سوى مرتزقة وأنبياء كذبة في خدمة أجندات سياسية مشبوهة. هل هناك من يعمل من خلالهم على استدراج البلد الى حمام الدم؟ هؤلاء يدوسون على جراحنا، ونعيقهم يغطي على البكاء الأخرس الحارق في داخلنا. إنّهم يُدنّسون مسرح الجريمة، وهم مجرّد كومبارس في مخطط خطير مكتوب للبنان والمنطقة، من تجلياته الكمين الذي نصبه قطّاع الطرق للمقاومة في خلدة! هذه هي الشطارة اللبنانية: الكارثة خلقت بزنساً جديداً أو عزّزته، إنه اقتصاد الخراب. من قلب الكابوس يطلع «فتيان شنكر»، ليختطفوا غضب ذوي شهداء المرفأ ويتلاعبوا به، وينطقوا باسمهم... ويدعوا إلى بناء نظام جديد! في الحقيقة ما يسعى إليه هؤلاء ومشغلوهم هو محاولة «عزل حزب الله»! تدعمهم جريدة «ليبراسيون» الفرنسية (عدد 3 آب 2021) التي يرأس تحريرها الصحافي الإسرائيلي دوف ألفون (رئيس تحرير «هآرتز» سابقاً)، بتحقيق مطوّل يشرح لنا كيف أن ««حزب الله» خزّن الأمونيوم لمصلحة سوريا، واغتال الشهود الذين يملكون معطيات عن القضية»! هناك في الأجواء رائحة نتنة تذكّر بسيناريو 2005… الإعلام الرسمي في الغرب يتفرّج علينا اليوم بمزيج من السادية والشفقة والفضول... فيما الحكومات التي «تعطف على الشعب اللبناني وتساعده»، تفرك يديها في انتظار الصفقات المقبلة التي سندفع ثمنها من القروض الجديدة التي سنراكمها!
السماسرة الجدد، وشهود الزور على الجريمة التي أطاحت كيان «لبنان الكبير»، يحتكرون الكلام بأدواتهم التقنية وإمكاناتهم ودولاراتهم الفريش وخطابهم «الثوري» المخادع. نحن الذين جرفنا الانفجار واكتوينا بناره، يريد اللصوص والطفيليون أن يسرقوا حتى ذاكرتنا. بالنسبة إليهم، أشلاء شهدائنا وأطلال منازلنا مجرّد مادة لطيفة للفيديوهات التي ستدرّ على أصحابها تمويلاً سخيّاً... الغضب الشعبي، بات وقوداً للفوضى والتخريب، والرقص على شفا العنف الأهلي. التغيير؟ أيّ تغيير في حضن الاستعمار الأميركي وتحت وصايته وبأمواله السخيّة؟ هؤلاء، إما عن تشوّش في الرؤية، وإما ارتزاقاً، وإما تعصّباً إيديولوجياً ومذهبياً، وإما بفعل الطفولية والطوباوية، يمهّدون للخراب الآتي، والوصايات المقبلة. إنّهم رفاق نضال مع «بطرك التطبيع» (أحد أخطر رموز النظام الذي قتلنا وسرقنا وجوّعنا)، سيشاركون في القداس الذي يحييه على أنقاض بيروت الثكلى، والدولة المدنية، وأحلام التغيير الحقيقي.
الاستعراض الذي تعشقه الكاميرات سينتهي عاجلاً أو آجلاً... وبعد أن ينتهي الاستعراض، سيبقى 4 آب. نعم، صحيح، في لبنان كل يوم هو الرابع من آب!