قبيل انعقاد مؤتمر باريس في ذكرى انفجار المرفأ، تخرج جملة معطيات فرنسية وأوروبية عن نقاشات تجرى حول ما يُسمى غربياً «السبل الأنجح لمساعدة اللبنانيين لا مساعدة النظام اللبناني والقوى السياسية فيه».أولاً، اندفعت باريس في التحضير لمؤتمرٍ كان يفترض أن يعقد الشهر الجاري. لكن اختيار ذكرى الانفجار، يحمل طابعاً معنوياً إضافة إلى تأكيد فرنسا دورها منذ سنة في تكريس مساعدتها للبنان بعد زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهي مستمرة في تقديم مساعدات عينية كما غيرها من الدول الأوروبية. إلا أن فكرة المؤتمر لا تزال غير ناضجة عملياً، لأنه يطرح رؤية كبيرة وطموحة، والتحضير له مبهم لجهة إيجاد الآلية الأفضل لمساعدة اللبنانيين. وحتى لا تتكرر ما خلصت إليه مؤتمرات سابقة كمثل مؤتمر دعم الجيش، من نتائج لا تبشر بالخير في إطار التنفيذ العملاني والسريع لمواجهة الانهيار السريع، فإن النقاشات تتم على مستويات فرنسية وأوروبية، لإيجاد الصيغة الفضلى، أو المنصة الملائمة لتحريك عجلة المساعدات والبحث في مشاريع مباشرة تسهم في تأمين حياة أفضل للبنانيين، في المجالات الحيوية الأساسية. فالنوايا الحسنة أمر يختلف جذرياً عن الترجمات العملية الواضحة.
ثانياً، يدور النقاش حول أوضاع اللبنانيين ومساعدتهم، بمعزل عن القوى السياسية والأجهزة المتورطة في الفساد. ورغم أن التقارير الديبلوماسية المرفوعة من جانب البعثات المعنية، ومعظمها لها مصالح داخلية وخارجية، لا تعكس كل الحقائق عن وضع اللبنانيين الذين تضرروا في شكل مباشر من الانهيار المالي والاقتصادي والاستشفائي، إلا أن ما يصل من خلال نقاشات موسعة خارج الإطار الديبلوماسي، بدأ يعطي لمحة وافية عن حقيقة أوضاع المجتمع اللبناني، لا سيما الطبقة المتوسطة التي أصيبت بأضرار فادحة. وجاء الانفجار ليضيف إلى مأساة اللبنانيين ضغطاً مضاعفاً، ما يتطلب التفكير بآلية عمل مبرمجة في شكل واضح وسريع إلى المعنيين، بما في ذلك مشاريع حيوية يمكن الاستفادة منها على المدى الطويل.
ثالثاً، حاولت باريس أخيراً الدفع في اتجاه تشكيل حكومة سريعة، وهي عكست في شكل واضح دعمها للرئيس نجيب ميقاتي، بعدما تبين عقم المحاولات لتأليف الرئيس سعد الحريري حكومته. ورغم أن سرعة التأليف قد لا تكون مضمونة حتى لو تم التكليف بسرعة، إلا أن مجرد بدء مرحلة جديدة، يمكن أن يسهم في تفعيل الدور الفرنسي أكثر، خصوصاً مع رغبة باريس ودفعها إلى تشكيل يسبق ذكرى الانفجار وعقد المؤتمر الدولي. لكن في المقابل، فإن تشكيل الحكومة لا يعني ارتياحاً أوروبياً مطلقاً تجاه الطبقة السياسية بكاملها، وغض النظر عن تجاوزاتها. ما يدور من نقاشات حول جدوى العقوبات، يتناول في شق أساسي، درس إمكان الانتقال منها إلى فرض «قصاص» على النظام ككل والقوى السياسية فيه، في شكل مغاير تماماً عن العقوبات. فالتسليم أن العقوبات الأميركية لا يمكن تطبيقها في الشكل والمضمون أوروبياً، ومن فرضت عليه لم يتأثر بها إلى الحد الذي كان مطلوباً منها لدفعه نحو تقديم تنازلات. والعقوبات تطاول مسؤولين تضطر باريس وغيرها من العواصم المعنية إلى الحوار معهم من ضمن أي مبادرة، وماكرون كان واضحاً حين تحدث في مؤتمره الصحافي في قصر الصنوبر عن أن المسؤولين في لبنان انتخبهم الشعب اللبناني وهم مسؤولون، ولذلك تحاورهم فرنسا. وهذا الأمر لا يزال على حاله. وبما أنه يفترض كسر حلقة الجمود وإبلاغ المعنيين أن ما يقومون به لن يمر من دون رد فعل، لذا يمكن لـ«قصاص» النظام وأركانه من كافة القوى السياسية، أن يعطي مفعولاً مباشراً معنوياً ومادياً في شكل سريع. ومن أساليب القصاص التي تناقش بجدية من جانب معنيين ومطلعين جيداً على الوضع اللبناني، بضعة أمثلة، منها أن لا يُمنح رئيس الجمهورية ميشال عون فرصة الكلام في مؤتمر دعم لبنان، على غرار ما جرى في المؤتمر الماضي الذي تحدث فيه عون. وهذا في حد ذاته بمثابة رسالة واضحة إلى أركان النظام بمسؤوليتهم المباشرة عما وصل إليه الوضع. علماً أن مستشار الرئيس الفرنسي باتريك دوريل ناقش خلال زيارته الأخيرة إلى رئيس الجمهورية التحضير للمؤتمر. إلا أن هذا تماماً يشكل كنه النقاش حول التمييز بين الحوار مع أركان النظام كونهم موجودين في مواقعهم، وبين «معاقبتهم» بطريقة مختلفة، على غرار ما فعله وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان مع الحريري حين استقبله في قصر الصنوبر ولم يزره في منزله. فما يناقش ليس مقاطعة ولا عقوبات على أشخاص بل رسالة عن «جدية الدول التي تتحرك لمساعدة اللبنانيين»، وأن المطلوب هو تغيير في سلوك النظام اللبناني ككل. والأداة تتضمن أشكالاً من القصاص تستهدف النظام وليس الأشخاص بعقوبات قد لا تحمل فائدة مباشرة وسريعة، علماً بأن نتائج «القصاص» ليست مضمونة النتائج أيضاً بالنسبة للدول الأوروبية.