تُصر وزارة التربية على السير في امتحانات الثانوية العامة رغم المطالبات المتزايدة من معلمين وتلامذة واتحادات طالبية وأولياء أمور بإلغائها، وتوظيف الجهود للاستعداد للعام الدراسي المقبل، باعتبار أن الظروف القاهرة والأسباب الموضوعية التي أفضت إلى إلغاء الشهادة المتوسطة تنطبق على الثانوية العامة.يستند وزير التربية طارق المجذوب، في قراره، إلى دعم العائلة التربوية وهيئات تربوية عدة (رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي، نقابة المعلمين في المدارس الخاصة، التفتيش التربوي، مديرية الإرشاد والتوجيه، لجنة التربية النيابية، المركز التربوي للبحوث والإنماء، مديرو بعض المدارس)، رغم التعقيدات التي تواجهها، ولا سيما عدم الجاهزية التعليمية والنفسية لنسبة مرتفعة من الطلاب.
من المسوّغات التي يقدمها تربويون ومعنيون بالاستحقاق من مديري مدارس ومعلمين وتلامذة وأولياء أمور للمطالبة بالإلغاء، أن الامتحانات مشوبة بغياب العدالة والمساواة التعليمية بين الطلاب، وتفتقر إلى الصدقية والشمولية وهزال التقييم لمحتوى تعليمي ممسوخ ومقلّص إلى الثلث، وعدم تحقق الأهداف التعليمية لدى غالبية الممتحنين، فضلاً عن أنها امتحانات صورية.
كما أن الاستعداد للاستحقاق كان ضعيفاً، إما بسبب إخفاق التعليم عن بعد لعدم توافر الإمكانات الخاصة به لدى عدد كبير من الطلاب، وضعف المحتوى الرقمي، فضلاً عن عدم توافر البنية التحتية من كهرباء وإنترنت، وإما بسبب العودة الشكلية للتعليم المدمج والتي لم تحقق الغاية المرجوّة منها لناحية إجراء تعليم تعويضي أو استكمال المنهج بصورة سليمة.
أما على المستوى الصحي، فتشكل مراكز الامتحانات لاستيعاب ما يقارب 40 ألف تلميذ، بؤراً خطيرة لإعادة تفشي وباء كورونا، خصوصاً مع تزايد حالات المتحور الهندي (دلتا)، ما يتطلب إجراءات وقائية مشدّدة، قد لا يكون، على الأرجح، للوزارة القدرة على القيام بها.
الأسئلة كثيرة حول قدرة كل مراكز الامتحانات على توفير الاحتياجات اللوجستية اللازمة لنجاح الاستحقاق على مدار الأيام الثلاثة المخصّصة لكل فرع من الفروع الأربعة: العلوم العامة، علوم الحياة، الاجتماع والاقتصاد والآداب والإنسانيات، خصوصاً أن كلفة الامتحانات المرصودة من الجهات المانحة، ستكون أكبر من المردود التربوي الشكلي الذي ستنتجه، وستنفق بغالبيتها على بدلات المراقبة والتصحيح وأتعاب اللجان. وبالتالي قد يكون من الأجدى استثمار هذا المبلغ في دعم صناديق المدارس الرسمية المتعثرة، أو تجهيز بعضها بأجهزة إلكترونية للتعليم عن بعد، او استثمار جزء منها في دفع تكاليف برامج تعليم تعويضي مخصّصة لتلامذة المدارس المتعثرة، والتحضير عملياً للعام الدراسي المقبل.
تحدّ آخر يكمن في خرق مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص عبر اعتماد مواد اختيارية دون أخرى، ما يحرم الممتحنين في الصف الواحد من ظروف موحّدة خلال الامتحان. وقد يمنح اختيار مادة معينة أفضلية لتلميذ على آخر في مادة أخرى مختارة لناحية سهولة أو صعوبة الامتحان، إضافة إلى تحويل بعض المواد الاختيارية في الفروع الأربعة، ولا سيما مواد الاجتماعيات (تاريخ، جغرافيا وتربية) في وضعية أدنى من مواد أخرى على مستوى التقييم وعلى مستوى اهتمام الطلاب بها مستقبلاً.
قد يأتي إصرار الوزير والداعمين لقراره من باب الحفاظ على الشهادة الرسمية كهوية تربوية للعبور نحو الجامعات ولا سيما في الخارج، ولكونها من أبرز أشكال سيادة الدولة في مجال التربية والتعليم، وحماية للتربية والتعليم من انهيار أعظم، ولأن من غير العادل أن يوضع التلميذ المجدّ والتلميذ المقصر في كفة واحدة، وأن تجربة الإفادات لم تكن ناجحة وسبّبت مشكلات لعدد كبير من التلامذة وأساءت إلى قيمة التعليم والسمعة التربوية.
لكن في ضوء التحديات التربوية واللوجستية والاقتصادية والنفسية، ثمة أسئلة توجه إلى وزير التربية عما إذا كان يدرك فعلاً حجم الضغط المعيشي الذي وضع فيه غالبية أولياء أمور الطلاب وأولادهم، ومدى انعكاس ذلك على تحصيل الطالب وصحته النفسية، وهل يعلم أن أهاليَ كثراً لم يكونوا قادرين على تأمين أساتذة دروس خصوصية لأبنائهم لتعويض ما فاتهم، وأن طلاباً ومعلمين لم يكونوا قادرين على الذهاب إلى المدرسة لاستكمال التعليم الحضوري، أو لمتابعة برامج التعليم التعويضي والتصحيحي لعدم توفر وقود، وأن تلامذة يدرسون حالياً على ضوء الشموع بسبب التقنين القاسي في التيار الكهربائي، وأن ثمة ثانويات لم تتمكن من إنهاء المنهاج، خصوصاً الرسمية منها، فكيف لنا أن نُخضع طلاب الثانويات الرسمية والمدارس الخاصة إلى معيار او مقياس تقييمي واحد في ظل فجوة تعليمية كبيرة بين الطرفين؟ وهل يعقل أن يتحول التلميذ إلى أداة، والامتحان إلى غاية ممجدة، أم المنطق يفترض العكس؟ وأيهما أقدس: كرامة المواطن أم شهادة ورقية لا قيمة فعلية لها، وما هي الفائدة العملية من الامتحانات، وأي موشرات علمية ونواتج تعليمية وازنة يمكن أن تحققها؟ وهل يعلم أصحاب القرار التربوي أن معظم الأساتذة لا يريدون المشاركة في أعمال الامتحانات بسبب الظروف الصعبة وتكاليف النقل وعدم توفر الوقود مقابل بدل مالي لم يعد يساوي شيئاً.
يخطئ من يظن أن إعطاء الإفادات في هذه الظروف العصيبة ينتقص من قيمة الشهادة الرسمية ويضرب سمعتها وسلطتها، بل هي حاجة طارئة وملحة. فالتجارب السابقة في إعطاء الإفادات لم تؤثر سلباً على قيمة الشهادة أو سمعة لبنان التعليمية التي تدهورت كثيراً لأسباب أخرى لا ترتبط بالشهادة، ولتكن امتحانات دخول الجامعات وسيلة العبور إلى التخصّصات الجامعية التي يرغب فيها الطلاب والحكم العادل بين الطالب المجدّ والتلميذ المقصر. وإذا كان الهم هو حماية حق بعض الطلاب في الالتحاق بجامعات الخارج التي تشترط شهادة رسمية، فليتمّ تنظيم امتحانات خاصة بهم، على غرار طلاب الطلبات الحرة، وربما لا تتجاوز نسبة هؤلاء 5 في المئة من مجموع المرشحين للامتحانات، ولا سيما في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي دفع أهاليَ كثراً إلى العدول عن تعليم أبنائهم في الخارج. وإذا كان الهم حماية التربية، فإن أولوية التربية تقتضي تعزيز المواطنية وإحساس المواطن بقيمته الإنسانية وانتمائه الوطني، وليس تعزيز الاغتراب عن الوطن الذي يزداد إحساس المواطنين به يوماً بعد آخر.
*باحث تربوي