فجّر المحقق العدلي طارق بيطار قنبلة مدوّية نفّست بعضاً من غضب اللبنانيين المتراكم بسبب غياب المحاسبة القضائية للمحظيّين سياسياً. لم تذهب جهود أربعة أشهرٍ، وصل خلالها القاضي بيطار النهار بالليل سُدىً. فرغم وجوب اللجوء إلى الحذر، يُنظر إليها كخطوة تعيد بعضاً، ولو قليلاً، من أملٍ مفقود في جسم قضائي مرتهن لأهل السياسة.
لم يثبت لدى المحقق العدلي أن الرئيس تمام سلام قرأ مراسلة الأمن العام بشأن وجود نيترات الأمونيوم... فلم يدّعِ عليه (أرشيف)

أنهى بيطار الاستماع إلى الشهود والمدّعى عليهم ليبدأ الملاحقات القضائية. بدأ من رأس الهرم ليُحدد موعداً لم يكشف عنه لاستجواب رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب كمدعى عليه. ووجّه بيطار كتاباً إلى مجلس النواب يطلب فيه رفع الحصانة النيابية عن كل من: وزير المال السابق علي حسن خليل، وزير الأشغال السابق غازي زعيتر ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق. ووجّه كتابَين، الأول إلى نقابة المحامين في بيروت لإعطاء الإذن بملاحقة خليل وزعيتر كونهما محاميين، والثاني إلى نقابة المحامين في طرابلس، لإعطاء الإذن بملاحقة وزير الأشغال السابق المحامي يوسف فنيانوس، وذلك للشروع باستجواب هؤلاء جميعاً بجناية القصد الاحتمالي لجريمة القتل وجنحة الإهمال والتقصير.
كذلك ادّعى على ضباط في القيادة السابقة والحالية للجيش، بينهم قائد الجيش السابق العماد جان قهوجي ومدير المخابرات الأسبق العميد كميل ضاهر، إضافة إلى المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا. كما طلب محاكمة قضاة مشتبه في تورطهم في التقصير والإهمال الذي أدى الى وقوع الانفجار. سجّل بيطار سابقة. فهو لم يستثنِ أحداً من معظم ممثلي الأطراف السياسية المسؤولين عن المرفأ. على سبيل المثال، اللواء طوني صليبا والمدير العام للجمارك بدري ضاهر محسوبان على رئيس الجمهورية. رئيس اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت حسن قريطم والمدير العام للنقل البري والبحري عبد الحفيظ القيسي من حصة الرئيس سعد الحريري. والوزير السابق يوسف فنيانوس من حصة تيار المردة، فيما الوزيران غازي زعيتر وعلي حسن خليل واللواء إبراهيم محسوبون على الثنائي الشيعي. في الشكل، لم يلتزم بيطار بخطوط حمر، مع أنّ الادعاءات تطرح مجموعة أسئلة تزدحم قد تظهر الأجوبة عنها في الأيام المقبلة. فعَلامَ استند بيطار ليدّعي على مسؤول دون آخر؟
المطّلعون على معطيات ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت يخلصون إلى أربعة مستويات من المسؤولية قد تتفاوت بين بعضها البعض. المسؤولية الأمنية تحضر أولاً، لتليها المسؤولية الوظيفية، ثم القضائية فالسياسية. وأحياناً تكون هذه المسؤوليات على مستوى واحد بحيث إنه لو أنّ أحداً ممّن علم من بين هؤلاء بوجود موادّ خطرة في المرفأ، لكان قد قام بدور مسؤول، ولتمكن من الحؤول دون وقوع الانفحار.
من هنا، تُعدّ المسؤولية الأمنية الأكثر أهمية، في نظر قاضي التحقيق العدلي. ادعى بيطار على قائد الجيش السابق جان قهوجي وعدد من ضباط الجيش. لكن لم يقترب المحقق العدلي من قائد الجيش الحالي جوزيف عون. المعلومات تُفيد بأن رئيس أمن المرفأ العميد طوني سلّوم قطع سلسلة المسؤولية من خلال زعمه أثناء التحقيق أمام بيطار أنه لم يُبلغ قيادته (مدير المخابرات السابق العميد طوني منصور وقائد الجيش العماد جوزف عون) بوجود نيترات الأمونيوم لكونه قلّل من أهميتها، بينما الضابط الذي سبقه العميد مروان عيد كشف أنه أرسل عدة كتب إلى رؤسائه (العميد ضاهر والعماد قهوجي). وهنا يحضر سؤال انطلاقاً من مقولة أنّ الإمرة هرمية والقيادة والحكم استمرارية. لقد ادعى المحقق العدلي على مدير المخابرات السابق (ضاهر) لكونه كان يعلم بوجود نيترات الأمونيوم، لكنه لم يدّعِ على مدير المخابرات الذي تلاه العميد طوني منصور لانتفاء علمه بحسب المستندات المتوفرة في محضر التحقيق، مع أنّ الأخير كان أمين سر مديرية المخابرات أيام كميل ضاهر، وعُيِّن مديراً للمخابرات عام 2017، بعد تعيين العماد جوزيف عون قائداً للجيش. فهل يُعقل أنه لم يكن يعلم بوجود نيترات الأمونيوم في المرفأ منذ أن كان أميناً لسر المديرية؟ وإن سقطت جناية الإهمال مع القصد الاحتمالي، ألا يتحمّل مع القائد الحالي بالحدّ الأدنى مسؤولية جنحة الإهمال والتقصير في المتابعة والاستعلام؟ فضلاً عن أنّ القاضي بيطار ادّعى على العميد جودت عويدات الذي كان رئيس فرع التحقيق في مديرية المخابرات عام ٢٠١٧، أي في عهد العماد عون. فلماذا قد يدّعي عليه طالما أنّ العميد طوني سلوم ادّعى أنّه لم يبلغ المديرية بشأن النيترات؟
لم يدّعِ بيطار على مدير المخابرات السابق (منصور)، رغم أنه كان أمين سرّ المديريّة في عهد مديرها الأسبق المدّعى عليه كميل ضاهر


قد تكون الإجابة موجودة لدى المحقّق العدلي، إلا أنّ الثابت أن الادّعاءات لن تتوقّف هنا فحسب، إذ إنّ المصادر القضائية تؤكد أنّ هذه الادعاءات أولية ستُستتبع لاحقاً بسلسلة ادعاءات تبعاً للمعطيات التي ستتوفر خلال التحقيق. كما أنّ الادعاءات لا تعني إدانة المدعى عليه، إنما تعني وجود شبهة حيال تورطه، وقد تسقط لاحقاً في حال عدم تحققها. مصادر متابعة للتحقيق تؤكد لـ«الأخبار» أنّ المحقق العدلي ادّعى على كل شخص ثبت أنّه تلقّى مستنداً بشأن وجود نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت، ولم يقم بأيّ إجراء فعلي للحؤول دون حصول الانفجار. على سبيل المثال، وافق المحقق العدلي على إخلاء سبيل الرائد في الأمن العام داود فياض، لكنه طلب الإذن من وزير الداخلية محمد فهمي لملاحقة اللواء عباس إبراهيم والادعاء عليه، مع أنّ إبراهيم لدى تلقّيه مراسلات ضباط الأمن العام من مرفأ بيروت أرسل بريداً أمنياً إلى كل من رئاسة الجمهورية والحكومة (في عهد الرئيس تمام سلام) ووزير الأشغال غازي زعيتر ووزير الداخلية آنذاك نهاد المشنوق. فادّعى على هؤلاء الذين ثبت تلقّيهم الكتاب المُرسل. تقول المصادر إنّ المشنوق تلقّى بريداً أمنياً من الأمن العام يتحدث عن دخول «مواد شديدة الخطورة إلى مرفأ بيروت». وهذا الأمر أكّده المشنوق، لكنه لم يقم بأي إجراء. لذلك ادّعى بيطار على المشنوق، علماً بأنّ الأخير أكّد لـ«الأخبار» أنّه لم يستدعه لا المحقق العدلي السابق فادي صوان ولا الحالي طارق بيطار، كاشفاً أنه لم يقم بأي إجراء لكون المراسلة تضمّنت إشارة إلى وجود حجز قضائي على السفينة، ما يعني أنّ الملف في عهدة القضاء وما ينفي وجوب تدخّله أصلاً.
القاضي بيطار لم يدّعِ على الوزير الأسبق غازي العريضي نظراً الى عدم وجود أي مُستند يُثبت أنه تلقى مراسلة بشأن النيترات، بينما ادعى على زعيتر لوجود مستند يفيد بتلقّيه معاملة قام بإحالتها على قاضي الأمور المستعجلة، من دون أن يُتابعها. أما ادّعاؤه على يوسف فنيانوس فلوجود مراسلات عديدة وصلت إليه بين القضاء وإدارة المرفأ، من دون أن تُتابع مسألة إزالة الخطر حتى النهاية. الأمر نفسه ينسحب على النائب علي حسن خليل الذي وصلته، عندما كان وزيراً للمالية، مراسلة من الجمارك أحالها لمخاطبة قاضي الأمور المستعجلة من دون متابعتها أيضاً. وبالتالي تحقق، في نظر القاضي، الإهمال مع القصد الاحتمالي لعدم الاكتراث لوقوع مخاطر جراء عدم إزالة الخطر.
وفق هذه القاعدة، يُطرح سؤال بشأن اللواء إبراهيم، الذي أرسل البريد الأمني إلى الرئاستين الأولى والثالثة ووزارتَي الأشغال والداخلية، بشان وجود نيترات الأمونيوم في مرفأ بيروت، فلماذا ادُّعي عليه؟ تُجيب المصادر المطّلعة على التحقيق بأنّ إبراهيم بعث بالمراسلة عام 2014، لكنه لم يُتابع القضية حتى عام 2019، تاريخ قيام أمن الدولة بفتح تحقيق بشأن العنبر الرقم 12. ولأجل ذلك، ادُّعِي عليه، علماً بأنّ مصادر الأمن العام تؤكد أن صلاحيتها تنحصر بالأشخاص وليس العنابر في ظل تولّي الجيش أمن المرفأ. غير أنّ مصادر التحقيق تتحدث عن وجود مادة في نظام المرافئ والموانئ (الصادر عام 1966) تُلزم الأمن العام بحراسة العنابر. فضلاً عن أنّ المحقق العدلي استند قبل ادعائه على مراسلة قديمة من رئيس دائرة الأمن العام في المرفأ عام 2001، يخاطب فيها الجيش بأنه سيؤمن الحراسة إلى جانبهم عملاً بنظام المرافئ والموانئ. لكن مصادر الأمن العام تلفت إلى أن النصوص القانونية التي صدرت بعد عام 1966، عدّلت مهمة الأمن العام في الموانئ والمرافئ والمعابر، لتقتصر على أعمال الضابطة الإدارية المعنية بحركة الأفراد حصراً.
لقد طلب المحقق العدلي من وزير الداخلية محمد فهمي الإذن بملاحقة اللواء إبراهيم. وبمجرّد انتشار الخبر، سارع فهمي إلى القول ما حرفيّته: «بما أنّ طلب المحقق العدلي لملاحقة اللواء إبراهيم راعى كل الأصول القانونية، لا يمكنني إلا أن أُعطي إذن الملاحقة احتراماً للقانون». هذا التصريح قاله لقناة «إل بي سي آي»، قبل أن يعود ويتراجع عنه أثناء ظهوره في نشرة الثامنة مساء على قناة mtv، حيث ذكر أنه لم يرده أيّ كتاب، مشيراً إلى أنه سيُحيل طلب إذن الملاحقة على الدائرة القانونية لدراسته قبل بتّه. ورغم إصرار المذيعة على الإجابة بنعم أو لا، لم يحسم فهمي أمر منح الإذن.
السؤال نفسه ينطبق على مسألة عدم الادعاء على رئيسَي الحكومة السابقين سعد الحريري وتمام سلام. فبيطار حدّد موعداً للاستماع إلى رئيس الحكومة حسان دياب كمدّعى عليه، لوجود مستند يفيد بعلمه بأمر النيترات، لكن مراسلة الأمن العام التي أُرسلت إلى رئاسة مجلس الوزراء عام 2014، تضمّنت معلومات عن وجود نيترات الأمونيوم في المرفأ. فلماذا لم يدّع على الرئيس تمام سلام؟ كذلك الرئيس سعد الحريري الذي تولّى رئاسة الحكومة بين عامَي 2016 و2019، فلماذا لم يشمله الادّعاء؟ تُجيب المصادر بأن قاضي التحقيق لم يجد ما يُثبت أن الرئيس سلام قرأ مراسلة الأمن العام، كما لم يجد ما يؤكد أن الحريري علم بأمر النيترات!
تزدحم الأسئلة التي قد تخلق تشكيكاً، ربما يُبدّده أنّ المحقق العدلي لم ينهِ سلسلة الادعاءات بعد...