التفوق الطبي الذي حقّقه لبنان جعله يتربع على عرش القطاع الطبي في منطقة الشرق الأوسط لعقود عدة. وإذا كان الطاقم الطبي المتسلح بالتقنيات الحديثة أحد أعمدة هذا النجاح، إلا أن استمرارية تخريج أجيال طبية متميزة هو أيضاً من الأعمدة المهمة، إن لم يكن الأهم.يعدّ النظام الطبي الجامعي أحد أهم الدعائم للمستشفيات في لبنان. إذ أنه يربط بين كليات الطب التي تخرّج «الطبيب الخام»، صاحب المعرفة الطبية الحديثة الذي يفتقر للخبرة العملية التطبيقية، وبين المستشفيات التي تعمل على تطويره عبر توفيرها له الاحتكاك المعرفي مع الأسماء الطبية اللامعة والحالات المرضية التعليمية. وبالتالي، فإن هذه أشبه بمرحلة انتقالية لصقل المواهب الخام التي تخرّجها الجامعات، والهدف الأسمى هو بناء جيل جديد من الأسماء الطبية.
في المستشفيات الجامعية، يتألف الفريق الطبي من طبيب متمرن (وهو أول درجات الهرم) طبيب مقيم وطبيب متخصص. أمّا الطبيب الاستشاري فهو رأس هذا الهرم التعليمي.
ويتمتع هذا النظام بمميزات عدة. فعلى سبيل المثال، وبسبب وفرة الأطباء، هناك طبيب مناوب/مقيم على مدار الساعة داخل المستشفى، ما يسهّل التعامل مع الحالات المرضية الطارئة التي تحدث أثناء غياب الطبيب الاستشاري. ثانياً، يمرّ التشخيص الطبي والقرارات الطبية، بعد التشاور، على عدّة أطباء، وبالتالي فإن نسبة الأخطاء الطبية تصبح أقلّ. ثالثاً، يمنح الاحتكاك بين الطبيب المتمرن/المقيم والطبيب الاستشاري/التخصصي الأول الخبرة الضرورية للارتقاء من مرحلة العلم الأولي نحو مرحلة النضوج العلمي.
وعليه، تبدو واضحة أهمية النظام التعليمي الطبي الجامعي الذي يعتمد على الاحتكاك العلمي الدائم بين المتخرّج وصاحب الخبرة. لكن اليوم، ثمة مخاطر محدقة بهذه الحلقة التعليمية المتكاملة داخل المستشفيات الجامعية. فبعد انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، وبعد تآكل عائدات الأطباء، فضّل كثيرون من أصحاب الخبرة، والأسماء اللامعة أكاديمياً مغادرة البلاد بحثاً عن الاستقرار المالي وهرباً من حالة الضغط النفسي التي تسود البلاد.
وبمغادرة هؤلاء مضمار التعليم الطبي، أضحى الطبيب المتمرن بلا معلم، وبلا مرشد يمسك بيده لينقله من عالم اللاخبرة إلى عالم التميز. والفجوة، أو الهوّة الكبيرة، التي تركها الأطباء المخضرمون بهجرتهم القسرية، ستخلق ضعفاً شديداً في الجيل الطبي الذي نعوّل عليه للمستقبل. أضف إلى ذلك، فإن جائحة كورونا ساهمت في تقلّص عدد الحالات الطبية التعليمية في المستشفيات، وبات المرضى من لون وتشخيص واحد. بهذا يكون جيل طبي بأكمله حُرم من المعلم والأداة العلمية على حد سواء.
على أرض الواقع، انقسم الأطباء المقيمون والمتمرنون إلى ثلاثة أقسام، واحد نجا بنفسه وفضّل المغادرة نحو الولايات المتحدة وفرنسا وبلجيكا بحثاً عن الخبرة الطبية المفقودة استثنائياً في بلادنا، وآخر فضّل البقاء وتحمل المخاطر حتى ولو كانت النتيجة بعيدة من الطموحات، وقد يكون ذلك بفعل ضرورات حياتية /عائلية أو لنقص في التمويل. وثالث باقٍ في لبنان في انتظار أي فرصة تلوح في الأفق تنقله من حال إلى حال أفضل.
قد لا تظهر نتائج هجرة الأطباء القسرية في المدى القريب، إلا أن السنوات المقبلة ستظهر الفجوة الكبيرة التي تهدد استمرارية الدورة التعليمية للأطباء في لبنان.
* اختصاصي في طب القلب والشرايين