الاحتفال بهزيمة فريق السلطة في انتخابات نقابة المهندسين يظل أكثر وضوحاً من الاحتفال بالمنتصرين. هذا الأمر يجب أن لا يشكل انتقاصاً من قيمة كل شخص قرّر، بعقل بارد او ساخن، التوجه الاحد الماضي للإدلاء بصوت يهدف الى تغيير واقع قائم في ادارة واحدة من اهم نقابات لبنان، ومركز ثقل الطبقة الوسطى المهددة بالفناء.لنقسم الامر الى قسمين، الاول يتعلق بالشق القطاعي والمهني والنقابي، حيث تفيد دروس العقود الثلاثة الماضية بأن من تعاقب على السلطة الحاكمة في لبنان، ما كان يريد لهذا الاطار النقابي ان يوفر حصانة وفعالية اكبر للمنضوين إليه. والهدف الفعلي منع هذه النقابة من لعب دور يتطابق مع وظيفتها في التدخل لمنع برنامج الاعمار الكارثي الذي طبّق في لبنان، ولإقرار خطة بناء تمنح الحق العام قدسية على حساب الحق الخاص، وللتدخل حتى في مواجهة ظاهرة التقليد التي أصابت مناطق كثيرة، صار الناس فيها يتصرفون بفردية مفرطة عند اختيار شكل بيوتهم والطبيعة الوظيفية لمؤسساتهم. وطبعاً، هم كانوا شركاء للمؤسسة الحاكمة في إقرارها قوانين وتشريعات سمحت لكبريات الشركات المشغلة للمهندسين بجني ارباح طائلة، هي جزء من الثروة العامة المنهوبة في البلاد.
في هذا الشق، كان رفيق الحريري عدواً أول لنقابة المهندسين. فكرة الرجل الحامل لخارطة تحت إبطه، تغريه في مشروع استثماري ناجح. لكن فكرة ان قوانين عامة يجب ان تنظم عملية الانتاج هذه كانت تثير لديه شعوراً بالغثيان. ولذلك، فكّر لو أن في مقدوره إلغاء النقابة من اصلها. لكنه لجأ - كما تعوّد - الى لعبة الاحتواء والاستيعاب. وطبعا ليس لدى الحريري الافكار الاستثنائية لتغيير مسار عمل المهندس في لبنان، بل لديه برنامج رشوة متنوع، يبدأ بتوفير وظيفة او فرصة عمل في الدولة، او في قطاع خاص، ويصل الى بيعك مشروعا على شكل مبنى او مؤسسة عامة. واذا وجد صعوبة في توفير متطلبات خصمه في لبنان، فلديه في الخارج السوق الاكثر إغراءً. لكنه اضطر طوال الوقت، مع حلفائه من قوى السلطة، ولا سيما الرئيس نبيه بري وزعيم الغالبية الدرزية وليد جنبلاط، وآخرين من الزعامات الجهوية او الحزبية اللبنانية، الى إقامة تكتلات كفيلة بالسيطرة على قاعدة الناخبين في النقابة. ومع ذلك، واجه صعوبات كبيرة في السيطرة الدائمة، وكان تحدي الراحل عاصم سلام له واعتراضه على هذا العنف المدمر لروح المدينة وضواحيها.
مرت السنوات، ومع الوقت، كانت الشركات الكبرى شريكة لقوى الحكم في السيطرة على النقابة، ومانعة إياها من لعب دورها التشريعي او الرقابي. لكن المعترضين الذين توزعوا على أحزاب ضعيفة أو تجمعات تبدلت مرات ومرات، كانوا على الدوام يبرزون الجانب السياسي من المواجهة. صحيح ان السياسة بوصفها التعبير الاكثر وضوحا عن الخلفية والهدف، تمثل عنصراً ضرورياً في ادارة معارك نقابية من هذا النوع، لكن السياسة يمكن ان تتحول حيلة لتجاهل الجانب القطاعي، حيث بالامكان تجميع مهندسين أوفياء لمهنتهم، او اكثر تطلباً لاحترام القوانين الحامية للحق العام، في معركة هدفها تحسين الاطار النقابي والمهني لهذه النقابة، والسير في خطط لادخال تشريعات تحميها من غول المال.
وبما ان السياسة طاغية هذه الفترة، فان الجانب الآخر من المعركة يظهر بصورته المقيتة. حيث تدار معركة انتخابات النقابة، وفق القواعد ذاتها التي اتبعت من قبل أغلبية النافذين في حراك 17 تشرين. وحيث يمكن تهديد إنجاز هزيمة السلطة في مجلس المندوبين، ليس من خلال خسارة معركة النقيب، بل من خلال السعي الى استثمار سياسي لمثل هذه النجاحات، وأخذ الامور نحو موقع آخر. بمعنى، ان الذين رحبوا بنتائج انتخابات الاحد الماضي، هم خليط عجيب غريب، فيه الكثير من العناصر المشكّلة لأسس النظام، وفيه قوى وشخصيات تقترح نفسها كبديل، وهي اسوأ من الموجود، ما يفرض سلسلة من الاسئلة على من يقود المهندسين المتضررين، ليس من واقع النقابة فقط، بل من واقع البلاد عموماً. وهذه الاسئلة تعيدنا الى «القلق المشروع» الذي رافق حراك 17 تشرين. ويمكن اختصار هذه الاسئلة بواحد كبير وشائك: هل من يخرج علينا مالكاً لشرعية تمثيلية بين المهندسين، ولم يكن يوما شريكاً في الاعيب سلطة النهب سواء في الدولة أم القطاع الخاص، ويقول لنا ما يمكن اعتباره البرنامج الحقيقي الذي يشمل كل العناوين الاساسية، وان لا يتركنا امام أحجية القيادة الجماعية والتشارك الثوري والتمايزات الضرورية... الخ من العبارات التي تعني أمراً واحداً: الاختفاء خلف جدار معترضين لتحقيق مكاسب تخدم فكرة أو مشروعاً لا يمثل – بالضرورة – مصالح الغالبية الساحقة من المهندسين... مع رجاء عدم التذرع بان المكاشفة قد تؤدي الى المواجهة بين المتحالفين في وجه السلطة، ورجاء آخر بعدم اعتبار السؤال دعوة كيدية إلى خلق انقسام عشية الاستحقاق الكبير!
نحن نعرف، مثل بقية الناس، حجم العفن الموجود، وأهمية استئصال النموذج وليس إطاحة رموزه فقط. لكننا نعرف، اكثر، ان تجربة العقد الأخير من الحراكات الشعبية، أثمرت كوارث وأهدرت طاقات وفرصاً. واذا كنتم تعيبون على البعض اتهام بعضكم بالعمل ضمن سياق سياسي يهدف الى ضرب لبنان، فرجاء عيبوا على انفسكم اتهام الآخرين بالبارانويا لمجرد طرحهم السؤال.