قرّرت السلطة إنهاء تثبيت الأسعار على المحروقات والأدوية والقمح، في عزّ الأزمة المالية ــــ النقدية ــــ الاقتصادية، من دون تحديد ما هو البديل منها، وهو ما لم تفعله أعتى الدول الرأسمالية. رُفع ــــ زوراً ــــ شعار التوقّف عن دعم الاستيراد مقابل الحفاظ على أموال المودعين. نجحت الطبقة المهيمنة في تعميم هذه النظرية، رغم أنّ الـ 15 مليار دولار (إن صحّت مزاعم الحاكم رياض سلامة) الموجودة في حساب «التوظيفات الإلزامية» لدى مصرف لبنان، ليست «أموال المودعين»، بل «الخميرة» التي يُريد سلامة ــــ بالتعاون مع المُنتفعين منه ــــ استخدامها لإنقاذ مصارف من الإفلاس وبعض المحظيّين، فيما «أموال المودعين» البالغة قرابة الـ 80 مليار دولار قامرت بها المصارف ومصرف لبنان، وتُريد اليوم الإفلات من تحمّل مسؤولية تبديدها، فتلجأ إلى الإيحاء بأنّه لا يوجد أموالٌ للمودعين إلا تلك المُتبقية في «التوظيفات الإلزامية» ويجب إنقاذها.
ياسين: يجب رفع الدعم تدريجياً، على مدى ثلاث سنوات(هيثم الموسوي)

رضخت السلطات لهذه الضغوط، ولتهديدات سلامة بالتوقّف عن فتح الاعتمادات اللازمة للاستيراد، فكانت صيغة استيراد المحروقات وفق سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار، و«وعدٍ» بإقرار البطاقة التمويلية يوم الخميس المقبل لتوزّع على نحو 500 ألف عائلة، بعدما كانت الحكومة قد حدّدت رقم 750 ألف عائلة. ما تقوم به السلطة، ليس حتّى «إجراءً ترقيعياً» لأنّ نتائجه السلبية ستكون فورية، إن كان عبر الانهيار في سعر صرف العملة أو ارتفاع الأسعار بشكل جنوني وبلوغ التضخم نسبة مرتفعة جدّاً، علماً بأنّها تملك القدرة على اتخاذ إجراءات فورية لمواكبة رفع تثبيت الأسعار.
يُذكّر المُشرف على مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية في بيروت، ناصر ياسين، كيف أنّه منذ عام 2018، وكلّ القرارات تُتّخذ «وفق منطق كلّ يوم بيومه. بوجود أزمة مصرف لبنان والمصارف والمالية العامة، لا يُمكن الركون إلى حلول ترقيعية، بغياب خطّة تعافٍ مالي». عِوض الإجراءات الحالية، «يجب اعتماد رفع تدريجي للدعم على الاستيراد، يمتد لفترة ثلاث سنوات». يتحدّث ياسين عن تحرير الأسعار شيئاً فشيئاً، فلا تؤثّر بشكل دراماتيكي على معيشة السكّان. إلا أنّ ذلك وحده ليس كافياً. يُضيف بأنّه «بالتوازي يجب أن يكون العمل لإصلاح القطاعات قد انطلق، لا أن تُترك القرارات المصيرية بيد مصرف لبنان وبغياب السلطة».
التجربة الأولى والمباشرة لتحرير الأسعار ستكون مع المحروقات. «كيف يُتّخذ هذا القرار قبل دعم النقل العام؟»، يسأل ياسين. القصة لا تحتاج إلى تمويل كبير وتشكيل لجانٍ وسنوات من وضع الدراسات، «لدينا فانات وباصات مُنظّمة بطريقة ذاتية بالنسبة إلى الخطوط والمناطق التي تمرّ بها. يُمكن دعم هؤلاء بطريقة ذكية». ما يطرحه ياسين «بديل مؤقّت إلى حين بناء نظام نقل عام فعّال». من البدائل المؤقتة التي يذكرها ياسين أيضاً، «البطاقة التمويلية للأفقر. هي ليست فكرة سيئة لبلد يمرّ بأزمة، شرط أن يكون الأفق من بعدها واضحاً وبوجود خطّة حكومية». المبالغ في البطاقة «يجب أن تكون زهيدة، لتسدّ حاجات السلع الرئيسية والنقل، وممكن أن تُرفع القيمة مع فصل الشتاء لتأمين مشتريات المازوت مثلاً». لماذا؟ يُجيب ياسين بأنّه «لا نستطيع تحويل مجتمع إلى الاعتماد فقط على بطاقة، وخاصة أنّ تمويلها غير واضح». أما بالنسبة إلى الأدوية، فتستطيع وزارة الصحة فوراً «التحوّل نحو الاستيراد المباشر. وبسبب الحاجة إلى دعم الكهرباء، يجب زيادة سعر الطاقة للمُستهلكين الكبار، والاكتفاء بسعر الكلفة لمحدودي الدخل».
عدم فرض الضرائب على الأرباح والثروة سبّب غياب الخدمات


هذه البدائل المؤقتة مُمكن أن تُشكّل عاملاً مساعداً للطبقات المتوسطة والمحدودة الدخل بانتظار الحلول الجذرية، التي تؤمّن استمرارية الخدمات للسكّان. وفي مقدّمة الخيارات التغييرية يأتي تفكيك الاحتكارات، ووضع نظام ضريبي عادل، يؤمّن الإيرادات اللازمة للدولة حتى تموّل استراتيجية حماية اجتماعية... أمّا وهذا الأفق غير واضح، «يجب ألّا يتم التفكير برفع الدعم إلّا بعد تنفيذ إصلاحات شاملة شبيهة بشموليتها بخطة الحكومة المُجمّدة، والبدء بالخروج من الأزمة الحالية، لأنّ رفع الدعم سيكون له تأثير سيئ على الطبقات المتوسطة والعاملة، التي أيضاً تحمّلت الوِزر الأكبر للأزمة حتى الآن من خلال فقدانها قيمة أجورها وقيمة معاشاتها التقاعدية وتعويضات نهاية الخدمة»، يقول رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية ــــ بيروت، غسّان ديبة. يُضيف بأنّ رفع الدعم «سيأتي كضربة إضافية لها. وهذا ما لا تفعله الحكومات في الأزمات. فالدعم كان سياسة صحيحة للتخفيف من وطأة الأزمة، بتثبيت أسعار سلعٍ أساسية». من أين سيتم التمويل؟ يُجيب ديبة بأنّ «هذا هو السؤال الأزلي في لبنان ويُستعمل دائماً لتبرير أمور عديدة، وأساسها عدم فرض الضرائب على الأرباح والثروة. فهذا هو السبب الرئيسي لعدم وجود طاقة كهربائية كافية أو غياب التغطية الصحية الشاملة».
المسألة واضحة بالنسبة إلى ديبة: «الآن، بديل رفع الدعم هو عدم رفع الدعم». ماذا في حال أصبح الأمر واقعاً؟ «يُمكن اعتماد بطاقة، لنُسمّها عائلية مثل الـ«bolsa familia» (تحويلات نقدية مشروطة تُركّز على الصحة والتعليم) في البرازيل وكانت تجربتها ناجحة جدّاً. طبعاً سيكون هناك معايير ستستثني الأكثرية من الطبقات الوسطى والعاملة، لذلك لا أرى أي مُبرّر لرفع الدعم حالياً». رفع الدعم سيجرّ خلفه أموراً عديدة، وصولاً إلى المطالبة بتصحيح الأجور وحمايتها، «بالتالي سيؤدي ذلك إلى لولب أجور وأسعار وطبع عملة، وسيتدهور الوضع النقدي بشكل كبير. يبدو حالياً وجود نوعٍ من «المساومة الاجتماعية»: الدعم مقابل عدم المطالبة برفع الأجور. إذا انتهى الدعم تنتهي معه هذه المساومة. فهل يدرون هم (السلطة ومصرف لبنان) ما يفعلون؟ لا أظن، بل يعتمدون سياسة يمينية مُغلّفة بعنوان شعبوي هو الدفاع عن أموال المودعين، وستزداد الأوضاع سوءاً».
الاقتصاد هو سياسة. والسياسة تعني أن تحسم سلطة ما عن مصالح من ستُدافع. تأمين حقوق السكّان والخدمات الاجتماعية وتوفير بيئة ملائمة لهم للإنتاج والتطور والنمو؟ أم اتخاذ قرارات تحمي امتيازات رأس المال، حتى لو كانت تتعارض مع المصلحة العامة؟ التوقّف عن تثبيت أسعار سلع رئيسية وأساسية في لبنان، بهذه الطريقة التي يتمّ بها، يُعبّر عن سياسة السلطة الاقتصادية: البقاء للمصارف والمُحتكرين وسائر الطبقة المهيمنة، على حساب المجتمع. إنّها استمرارية لسياسات السلطات طوال السنوات الماضية، في تحويل البلد إلى «جنّة سمسارات» لفئة قليلة جدّاً، مقابل تدمير العلاقة الحقوقية بين «الدولة» والسكّان.



«الاحتياطي» يكفي لـ 18 شهراً... لمَ الهلع؟
عن قصدٍ، جرت شيطنة دعم الاستيراد، لأنّه يمكن أن يُموّل من حساب «التوظيفات الإلزامية» لدى مصرف لبنان. يُشير رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية ــــ بيروت، غسان ديبة إلى أنّ «الاحتياطات بالعملات الأجنبية لا يمكن اعتبارها ثابتة. يُحكى اليوم عن قيمة الاحتياطي لدى مصرف لبنان كأنه «قجّة» مقفلة تنقص فقط عندما يتم استعمالها للاستيراد، لكنها أيضاً مُرشّحة للازدياد في ظلّ تدفّق العملة الصعبة من الخارج، إن عبر التصدير أو عبر أموال المغتربين أو السياحة، وكلّ هذه المصادر مرشّحة للزيادة». إضافةً إلى ذلك، «ما لدى مصرف لبنان اليوم (15 مليار دولار، بحسب ما أبلغ نائب الحاكم مجلسَ النواب)، هو أكثر من الاحتياطي الذي يملكه الكثير من المصارف المركزية في العالم، ويكفي لأكثر من سنة ونصف سنة من الاستيراد. لماذا الهلع إذاً؟». يوضح ديبة أنّ «الاحتياطي» لدى مصرف لبنان مكوّن لأمرين: «أولاً، الدفاع عن الليرة (و/أو التخفيف من الأزمات المالية)، ثانياً تمويل الاستيراد». يعتبر أنّ الاحتياطي حساب سيادي، ولا يستطيع «مالكو الدولار» منع «المركزي» من استخدامها. «مثلاً، إذا اعتبر المُصدّر أنّ دولاراته هي له ولا يستطيع البنك المركزي استخدامها لتمويل الاستيراد وأبقاها خارج لبنان، فماذا تفعل الدولة للاستيراد، ومنها حاجات الطاقة والكهرباء؟ ومن يتحدث عن أن الإنفاق الحكومي بالعملة الأجنبية هو بمثابة دَين على الدولة للمودعين مخطئ».
ولكن هل يجب أن يستمر مصرف لبنان بتمويل الاستيراد؟ يقول ديبة إنّه في حال «سبّب الأمر قلقاً لدى البعض، يُمكن نقل كلفة الدعم من السلطة النقدية إلى وزارة المالية، التي بعد استيراد السلع على «سعر السوق» (لا يمكن للدولة أن تستعمل السعر في السوق السوداء، يعني استمرار نوع من دعم الدولار للاستيراد)، أن تدعم أسعار هذه السلع عبر الضرائب على الأرباح والثروة. هذا لن يُخفّف من قيمة الاستيراد التي يسعى إليها البعض، ولكن هل يمكن فعلياً تخفيف قيمة الاستيراد من المحروقات والدواء من دون هزّة اقتصادية واجتماعية كبرى؟ المسألة إذاً توزيعية، يمكننا الاستمرار بالدعم إذا استطعنا أن نُحمّل الرأسمال عبئه. وهم يريدون تحميل الثمن للطبقات الوسطى والعاملة. إنّه وضع كلاسيكي من الصراع الاجتماعي، وخصوصاً خلال الأزمات».